نقضوا مواثيق الأمان وقتلوا العُزَّل

جرائم العثمانيين في "ضِرما" الخالدة

لم يكتف الوالي العثماني في مصر محمد علي وقواته الغازية بإسقاط الحجاز في عصر الدولة السعودية الأولى؛ بل قرر أن يقضي على الدولة السعودية نهائيًّا، ولتحقيق ذلك أرسل حملة يقودها ابنه إبراهيم باشا بعد فشل ابنه أحمد طوسون، وقد جاءت الحملة الجديدة بأكثر من ثمانية آلاف جندي من عناصر وقوميات مختلفة مرتزقة، كما تضمّنت بعض الضباط الفرنسيين، وعددًا من الأطباء الإيطاليين.

وصلت أفواج الغُزاة في حملتهم الثانية إلى الحجاز في أكتوبر سنة (1816)، وفي أثناء ذلك حين علم الإمام عبد الله بن سعود (آخر أئمة الدولة السعودية الأولى) بأنباء وصول حملة إبراهيم باشا وتحركها إلى نجد؛ جمع قواته واتجه لصد الغُزاة، وقبل أن يتوغل إبراهيم في القصيم اشتبك مع قواته في عدة مواجهات عسكرية.

ومع المقاومة التي أبداها السعوديون لقوات العثمانيين المدعومة والمتصلة بخطوط إمدادها، لم يكن الطريق إلى العاصمة السعودية الدرعية سهلًا كما كان يظن إبراهيم باشا وجيشه، فقد كانت الجبهات السعودية تُدافع بكل قوة وشراسة، كعنيزة والرس وشقراء وغيرها من البلدان، وكانت المواجهة الأولى لتلك القوات الغازية في بلدة الرس، التي أبدت صمودًا عزيزًا لأربعة أشهر تقريبًا، تكبدت خلالها القوات الغازية ما يزيد على ألفي وأربعمائة قتيل، وبعد تحييدها بالصلح سقطت معظم بلدات القصيم، حيث اتجه إبراهيم باشا نحو إقليم الوشم.

تراجع الإمام عبد الله بن سعود تكتيكيًّا إلى الدرعية، ليحصّنها ويدافع عنها، أما إبراهيم باشا فقد تقدّم إلى شقراء في طريقه إلى الدرعية، فحاصرها وضرب أسوارها بالمدافع، مما أدى إلى تهدّم بعض الجهات من السور، وانتهى الأمر بعقد الصلح بعدما قطع من نخيلها النصف أو يزيد.

ويذكر المؤرخ السعودي ابن بشر في تاريخه عن الإمام عبدالله أنه: “أمر سعود بن عبد الله بن محمد بن سعود في عدّة رجال معه من أهل الدرعية وغيرهم، أمر الجميع أن يسيروا إلى بلدة ضرما ويدخلوها ليصيروا عونًا لأهلها وردءًا لهم، فساروا إليها ودخلوها”.

وهذا الأمر من الإمام استشعارٌ منه بخطورة الوضع بعد سقوط معظم إقليم الوشم وأهمية بلدة ضرما كخط دفاع أول للعاصمة الدرعية، التي تقع بالقرب من سفح جبل طويق الغربي، وتبعد عن الدرعية قرابة ستين ميلًا إلى الغرب منها، ولذلك قام الإمام عبد الله بإرسال الدعم العسكري لها. يقول المؤرخ الفرنسي فليكس مانجان مشيرًا إلى ذلك: “وقبل أن يتوجّه إبراهيم باشا إلى الدرعية رأى أنه من المناسب الاستيلاء على ضرما، وكان قد تلقى تأكيدات بأنه سيجد فيها مؤنًا وفيرة”.

كما يقول المؤرخ السعودي محمد الفاخري عن إبراهيم باشا في ضرما: “ثم سار ونزل ضرما فحاربها واستباحها عنوةً، فقتل الباشا من أهلها في البيوت والسكك والمساجد، قيل قتل من أهلها اثنتا عشر مائة، ومن فيها من غيرهم خمسين، ونهب البلد كلها ثم ساق من فيها من النساء والذرية إلى الدرعية وهم نحو ثلاثة آلاف أو أكثر”.

ويبدو أن الفاخري من هول الأخبار لم يسعه إلا القول “فالحمد لله على كل حال”. بينما نجد أن “ابن بشر” يستفيض في ذكر ما وقع لأهل ضرما مع الجيش التركي البربري الغازي فيقول: “ثم إن الباشا وعساكر الترك لما وصلوا قرب بلد ضرما ركب عدد من خيل وفاضوا على البلد وقاسوها، وعرفوا منزلهم ومنزل قبوسهم ومدافعهم وقنابرهم، ثم رجعوا إلى مخيمهم  فلما كان صبيحة أربعة عشر من ربيع الثاني أقبل الباشا على البلد، ونزل شرقها قرب قصور المزاحميات بينها وبين البلد، وحطوا ثقلهم وخيامهم، ثم سارت العساكر بالقبوس والمدافع والقنابر ونزلوا بها شمال البلد قرب السور، فثار الحرب بين الترك وبين أهلها وحقق الباشا عليهم الرمي المتتابع وحربهم حربا لم ير مثله، وثبّت الله أهل البلد فلم يعبؤا به، وطلب منهم المصالحة فأبوا عليه ولم يعطوه الدنية”. ويضيف: “كانت هذه البلد ليس في تلك النواحي أقوى منها بعد الدرعية رجالًا وأموالًا وعددًا وعدة ولكن الله يفعل ما يريد، فحشدت عليهم عساكر الترك وثلموا السور بالقبوس والمدافع فلم يحصلوا على طائل، ثم حشدوا الترك عليهم أيضًا وقربوا القبوس من السور وحربوها حربًا عظيمًا هائلاً، ذُكر لي أنهم عدوا فيما بين المغرب والعشاء الآخر خمسة آلاف وسبعمائة رمية ما بين قبوس ومدفع وقنبر فهدموا ما والاهم من السور”.

صمد السعوديين أمام مدافع العثمانيين وقنابلهم حتى هدموا الأسوار.

ويكمل ابن بشر قوله: “ثم إن الباشا ساق الترك عليهم وأهل البلد ثابتون فيه فحمل عليهم الترك حملة واحدة فثبتوا لهم وجالدوهم جلاد صدق وقتلوا منهم نحو خمسمائة رجل وردوهم إلى باشاهم وبنوا بعض ما انهدم من السور، فلما رأى الباشا صبرهم وصدق جلادهم أمر على بعض القبوس وصرفها إلى جنوب البلد. وكان الحرب والضرب والرمي متتابع على أهل البلد من الترك في الموضع الأول وجميع أهل النجدة من أهل البلد والمرابطة قبالتهم عند السور المهدوم في وجه القبوس والقنابر”.

ويمضي ابن بشر في وصف تلك الحالة التي مرّت بها بلدة ضرما، وما وقع على الأهالي من ظلم وتعسف واعتداء ووحشية مفرطة يندى لها جبين الإنسانية من الأتراك فنراه يقول: “ودخلت الترك البلد من كل جهة وأخذوها عنوة وقتلوا أهلها في الأسواق والسكك والبيوت، وكان أهل البلد قد جالدوهم في وسطها إلى ارتفاع الشمس وقتلوا من الترك قتلى كُثُر ولكن خدعهم الترك بالأمان، ذُكر لي أنهم يأتون أهل البيت والعصابة المجتمعة فيقولون لهم أمان ويأخذون سلاحهم ويقتلونهم ونهبوا جميع ما احتوت عليه البلد من الأموال والأمتاع والسلاح واللباس والمواشي والخيل وغير ذلك .. وهرب رجال من أهل البلد وغيرهم على وجوههم في البرية فبين ناج ومقتول وبقيت البلد خالية من أهلها.. “.

لم يلتزم العثمانيون بأي عهد قطعوه للسعوديين فقتلوهم بعد أن منحوهم الأمان.

ويتفق مع ما ذكره ابن بشر الفرنسي فليكس مانجان الذي نقل لنا صورة المشهد المأساوي الذي عاشته ضرما وأهلها من الإجرام العثماني حيث يقول: “إن إبراهيم باشا المنتصر، الذي واجهته مقاومة لم يتوقعها، أمر الجنود بالقضاء على أهل المدينة قضاء مبرمًا، وطلب منهم ألا يبقوا على أحد، وقد نفّذ الجنود أمر قائدهم في الحال، وما كاد الأتراك المتلهفون للسلب والنهب، يهزمون آخر المدافعين عن المدينة حتى دخلوها، ونفذّوا إرادة قائدهم بسرعة تفوق سرعتهم لو طلب منهم القيام بالهجوم. فانقضّوا على الأهالي، يطلقون النار عليهم بغزارة، ودخلوا المنازل وقضوا على أهلها، وقد أنجزوا ذلك خلال أقل من ساعتين ولم يبق إلا بضع مئات من النساء والأطفال، الذين أبقت رأفة الجنود حياتهم، كان هؤلاء الضحايا المساكين يرون أمام أعينهم جثث آبائهم، وإخوتهم، وأزواجهم وقد اختلط بعضها ببعض.. كانت الدماء تسيل في الطرقات التي كانت تغص بالموتى، ذلك كان العقاب الذي أوقعه إبراهيم باشا بسكان ضرما الذين أرادوا الوقوف بوجهه..”.

من ينظر إلى تلك المشاهد التي صوّرها المؤرخون المعاصرون لمعركة ضرما الخالدة، يُدرك معنى الصمود والاستبسال من أجل الوطن والدفاع عنه، ويدرك مدى الخبث واللؤم الذي أظهره العثمانيون الغُزاة، الذين افتقدوا لبديهيات الإنسانية ومعاني الرحمة.

  1. بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
  2. خليفة المسعود، موقف القوى المناوئة من الدولة السعودية الثانية 1234-1282ه/1818-1866م دراسة تاريخية وثائقية (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
  3. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
  4. عبدالفتاح أبو علية، محاضرات قي تاريخ الدولة السعودية الأولى (الرياض: دار المريخ، 1991).
  5. عبدالله الصالح العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط12 (الرياض: مكتبة العبيكان ،2003). 
  6. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  7. فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 2002).
  8. محمد بن عمر الفاخري، تاريخ الفاخري، تحقيق: عبد الله الشبل (الرياض: الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، 1999).