أسسوا لوبي سيطر على السلاطين

العصر الذهبي للصهيونية في الدولة العثمانية

تُجمع الكتابات التاريخية، على أن اليهود عانوا من الاضطهاد في أوروبا أكثر من باقي الأماكن في العالم، وهو ما جعل الانتماء إلى اليهودية يعادل القتل أو النفي في كثيرٍ من فترات التاريخ الوسيط في أوروبا، هذا الإكراه وهذه الحالة من الاضطهاد دفعت صهاينة اليهود إلى البحث المستمر عن نظام سياسي يحتويهم ويأويهم، مهما كلف ذلك من تنازلات في التعامل السلوكي أو الامتياز المادي.

ويمكن القول بأن بعضًا من حدود الدولة العثمانية شملت مناطق عاش فيها اليهود، وكان لسلاطين آل عثمان علاقة خاصة جدًا مع الصهاينة من اليهود، لذلك كان قبولهم لهم باحتوائهم داخل النسيج المجتمعي للدولة كلها؛ فذلك شجع يهود الشتات على اختيار الأناضول ملجأً ومستقرًّا لهم، خاصة بعد التعامل الإيجابي الذي عوملوا به من طرف الأتراك، على خلفية التنسيق بين السلطة العثمانية والصهاينة القريبين جدًّا من بلاط السلاطين.

في هذا الصدد، بدأ وصول الأفواج الأولى من اليهود، بعد عمليات النفي التي تعرضوا لها في أوروبا، وكانت البداية في مدينة بورصة التركية التي نزلتها جماعات أُطلق عليهم “الرومانيوت”، على اعتبار حديثهم باللغة الرومية، ثم أضيف إليهم “الأشكيناز”، وهم اليهود الفارُّون من فرنسا، إضافة إلى “السفرديم” الذين جرى نفيُهم من إسبانيا سنة (1470)، وأيضا الجماعات الأخرى التي هربت من أوروبا الشرقية مثل بولندا وأوكرانيا.

فبعد سقوط غرناطة (1492) تضاعفت الهجرات الجماعية اليهودية نحو إسطنبول والمدن القريبة منها في الجانب الأوروبي وفي الأناضول، خصوصًا بعد أن نشطت محاكم التفتيش الأوروبية، والأوامر بطرد ونفي المسلمين واليهود الذين نجوا من الحرق في الأفران، ومع وصول اليهود إلى الأراضي العثمانية وجدوا من سلاطينها الحماية التامة والمعاملة التفضيلية، ظاهريًا تحت شعارات التسامح وحرية المعتقد وعقد الذمة، وباطنيًّا لاعتبارات براغماتية، حيث رأى العثمانيون في العقلية التجارية الصهيونية مرتكزًا ماليًا يمكن الاعتماد عليه في دعم أجندات الدولة داخليًّا وخارجيًّا.

رأى العثمانيون في الصهيونية عقلية تجارية يمكن الاستفادة بها لتنفيذ مخططات الأتراك الداخلية والخارجية

وحول تعامل الأتراك مع اليهود، يقول التركي نامق كمال: “قام الإسبان بعد استيلائهم على غرناطة بحرق الأهالي الذين لم يبدلوا دينهم، بينما عندما فتحنا إسطنبول أعطينا ووهبنا الحرية الدينية لجميع الطوائف والأديان، أما اليهود الذين كان عددهم يقارب الـ 300 ألف فقد خُيّروا بين الموت أو التحول إلى المذهب الكاثوليكي، ونحن نعرف بأن الدولة العثمانية قد فتحت صدرها لهؤلاء أيضًا”.

لقد حظي الصهاينة داخل حدود الدولة العثمانية بمكانة لم يحظ بها غيرهم من باقي الديانات والأعراق؛ وذلك بالنظر إلى اللمسة التجارية التي بدت بصمتها على الاقتصاد التركي، وأيضا الدعم المالي السخي للباب العالي حيث بلغ الأمر ببعضهم إلى إقراض سلاطين آل عثمان مبالغ مالية مهمة للتصرف فيها حسبما تقتضيه مصلحتهم الخاصة أو العامة.

ساهم موقع الصهاينة في الدورة الاقتصادية للدولة العثمانية، في تمتّعهم بامتيازات ومناصب عُليا، جعلت غيرهم من أهل الذمة، وخاصة الروم والأرمن، يحقدون عليهم ويتنافسون معهم، بل يكيدون لهم، ورغم هذا التدافع الديني والعِرقي، فقد استطاع الصهاينة أن يكونوا لوبي قويًّا داخل دواليب الدولة العثمانية، ووجدوا طريقهم إلى البلاط السلطاني، الذي أسبغ عليهم رضا الدولة العثمانية ليعيشوا حالة من الرخاء والاستقرار جعلت المؤرخين يطلقون على تلك الفترة “العصر الذهبي” للصهاينة.

ويوضح التاريخ أن العلاقات التركية الإسرائيلية المتميزة لم تنشأ من فراغ، بل نتيجة مرتكزات قديمة، استمرت حتى بعد سقوط العثمانيين ودولتهم، هذا التتويج جسدته الاحتفالات التي أقامتها الصهيونية العالمية سنة (1992) بمناسبة الذكرى الخمسمائة للترحيب الرسمي الذي قدمته الدولة العثمانية لهم عام (1492).

  1. ستانفورد ج. شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية، ترجمة: الصفصافي القطوري (القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم، 2015).
  2. كامل سعفان “اليهود: من سراديب الجيتو إلى مقاصير الفاتيكان” (القاهرة: دار الفضيلة، د.ت).
  3. أحمد النعيمي، اليهود والدولة العثمانية (عمَّان: دار البشير، 1997).
  4. نور علوان “عندما هرب اليهود من أوروبا إلى الدولة العثمانية”، مقالة نشرت على موقع نون بوست على الرابط: https://www.noonpost.com/content/20767
  5. أحمد آق كوندز وسعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).