ساعدوهم على الهجرة ومنحوهم امتيازات أجنبية

كيف مهد العثمانيون لإنشاء دولة الصهاينة على أرض فلسطين

من الموضوعات المثيرة للجدل في تاريخ الدولة العثمانية، موقفها من الحركة الصهيونية والاستيطان اليهودي في فلسطين؛ إذ دخل هذا الموضوع مجال الصراع الأيديولوجي من جانب بعض المؤرخين المختصين بتاريخ الدولة العثمانية، وأيضًا قطاعات كبيرة من كُتاب تيار الإسلام السياسي. ولم يُنظَر إلى هذا الموضوع نظرة علمية مبنية على وقائع التاريخ والبراجماتية السياسية للدولة العثمانية، لا سيما في سنوات ضعفها.

ومن أهم الأمثلة على حساسية الموضوع في الكتابات التركية، ما كتبه المؤرخ التركي أحمد آق كوندز في هذا الشأن، ودفاعه عن موقف الدولة العثمانية من الاستيطان الصهيوني في فلسطين: “إن الحاقدين على الترك عامةً والدولة العثمانية خاصةً لا يملّون من قلب حقائق التاريخ… ومنها مواقف الدولة العثمانية في فلسطين. إذ يُلقي الذين يجهلون النظام القانوني والسياسي المُنفّذ في أراضي فلسطين بثقل النوائب والنكبات التي أصابت العالم العربي على عاتق الدولة العثمانية”.

وعلى العكس من ذلك فيرى الفريق الثاني المسؤولية المباشرة للدولة العثمانية، عن تزايد المستعمرات اليهودية في فلسطين؛ إذ أنشأت الدولة العثمانية متصرفية القدس المستقلة عن ولاية الشام. وتشمل هذه المتصرفية أقضية القدس ويافا وغزة والخليل وبئر السبع، وأصبحت هذه المتصرفية تخضع مباشرةً للحكومة المركزية في إسطنبول، وتتبع لوزارة الداخلية.

وساعدت على نشأة المستوطنات اليهودية في فلسطين العديد من العوامل التي لم تستطع الدولة العثمانية مواجهتها، بل عجزت في النهاية عن التصدي لها، وتغاضت أحيانًا عنها، لا سيما في سنوات ضعفها، ومن أهم تلك العوامل: الحرية التي تمتع بها اليهود من رعايا الدولة العثمانية في التنقل وامتلاك الأراضي بحكم كونهم رعوية عثمانية.

تسببت الفرمانات العثمانية في تملُّك اليهود للأراضي، وتأسيس المعسكرات في القدس.

وبالنسبة لليهود الأجانب، ساعد صدور فرمان عثماني في عام (1869) يسمح بتملك الأجانب للأراضي في الدولة العثمانية على سرعة تكوين المستوطنات اليهودية، كما دفعت بعض الأحداث الداخلية في روسيا واضطهاد اليهود بها، إلى موجة كبيرة من هجرة اليهود الروس إلى فلسطين لا سيما منذ عام (1881)، وتملكهم للأراضي في فلسطين.

وانتبه السلطان عبدالحميد الثاني إلى حركة المستوطنات اليهودية، وحاول أن يستثمر رغبة صهاينة اليهود الاستيطان في فلسطين. وخلال الفترة بين (1881-1888) تزايدت أعداد ومساحات المستوطنات اليهودية، وللمناورة أصدر عبدالحميد الثاني عام (1881) فرمانًا للحد من إقامة اليهود في فلسطين لمدد طويلة، لكن الولايات المتحدة الأميركية لم تقتنع بالفرمان، ولا التوضيحات العثمانية التي أرسلتها الدولة العثمانية لأميركا، بأن الدافع وراء الفرمان العثماني الخشية من النزاع بين اليهود والعرب في فلسطين.

وطلبت أميركا من الدولة العثمانية ضرورة احترام الامتيازات الأجنبية، والسماح لليهود الأجانب بالاستقرار في فلسطين وتملُك الأراضي، وأدى ذلك إلى تراجع الدولة العثمانية عن قرارها السابق، والتصريح بأن الفرمان السابق لن يُطَبق إلا بحق المهاجرين اليهود القادمين بأعداد كبيرة، وليس بحق الذين يأتون فرادى.

وتستنكر المؤرخة الأردنية فدوى نصيرات هذا الموقف من الدولة العثمانية وتقول: “هكذا استطاعت الدول الغربية في عام 1888 أن تحصل على تنازل من الباب العالي يسمح لليهود بالاستقرار في فلسطين بشرط أن يصلوا فرادى لا جماعات، وأدى ذلك إلى فشل الدولة في منع اليهود من الاستقرار في فلسطين”.

والأكثر من ذلك، لجوء بعض صهاينة اليهود الأجانب إلى طلب الرعوية العثمانية حتى يصبح لهم كافة الحقوق في فلسطين، ومن ذلك مذكرة مرفوعة من الصدر الأعظم العثماني إلى السلطان العثماني في عام (1891): “لقبول منح التبعية (الجنسية) العثمانية لأربعمائة يهودي في صفد و40 في حيفا قدموا إلى الديار الفلسطينية”.

ويذكر التركي أحمد آق كوندز رفض السلطان لطلب الصدر الأعظم في مجال الدفاع عن موقف الدولة العثمانية من الاستيطان اليهودي، لكن الوثيقة في الوقت نفسه توضح التضارب بين مؤسسات الحكم العثماني في هذا الشأن، وأنه لم يكن هناك سياسة واحدة تجاه الأمر.

وهكذا أدى ضعف الدولة العثمانية، ونظام الامتيازات الأجنبية، وتدخل الدول الغربية إلى تزايد أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، والتوسع في إنشاء المستوطنات اليهودية. وحاول عبدالحميد الثاني أن يتلاعب بالأطماع الصهيونية مفاوضًا على الرغبة بتحصيل مكاسب كبرى، وفي الوقت نفسه متظاهرًا أمام الأمة الإسلامية والعرب تحديدًا بأنه حاول الدفاع عن فلسطين.

  1. فدوى نصيرات، دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).

 

  1. إيرما فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية، ترجمة أنور إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2021).

 

  1. ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015).

 

  1. جعفر حسن، فرقة الدونمة بين اليهودية والإسلام ، ط3 (بيروت: مؤسسة الفجر ، 1988).

 

  1. أحمد النعيمي، الأقلية اليهودية والدولة العثمانية (بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1990).

 

  1. إبراهيم العلاف، “دور الماسونية في الحياة الاجتماعية والسياسية التركية المعاصرة”، مجلة دراسات اجتماعية، بيت الحكمة، بغداد، العددان (3،4)، (1999-2000).

 

  1. أحمد آق كوندز وسعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).