تجاهلوا تحذيرات العرب وسهَّلوا إقامة المستوطنات

"الاتحاديون" دعموا الاستيطان الصهيوني على أرض فلسطين

إن من يتعمق في تاريخ الدولة العثمانية في عهودها المختلفة، وبروزها كإحدى الدول المُستعمِرَة في العالم، ثم مرورها بمراحل الضعف والانهيار، وسيطرة حزب الاتحاد والترقي على مقاليد الأمور فيها وبدايات النهاية للأتراك، يُدرك جيدًا أن الموقف العثماني كان متساهلًا مع هجرة اليهود إلى فلسطين من جهة، ومن جهةٍ أخرى فقد رحَّب المسؤولون العثمانيون بتلك الهجرات، إضافة إلى ذلك فقد استطاع الصهاينة توظيف الأساطير والأقوال لزرع الحنين في نفوس اليهود، ودفعهم إلى الهجرة والاستيطان في القدس وما حولها، وشراء الأراضي وحيازتها خارج أسوار القدس، وبناء المستوطنات اليهودية لزيادة أعداد اليهود في فلسطين ومع مرور الوقت فرض سياسة الأمر الواقع.

لقد استفاد الصهاينة من أجل تحقيق أهدافهم من مداخلات الدول الأوروبية لدى الباب العالي، عبر وجودهم في إسطنبول لمناقشة مسألة هجرة اليهود إلى فلسطين، وأيضًا النشاط القنصلي الواسع لقناصل الدول الأوروبية، وبخاصة بريطانيا، في كل من بيروت ودمشق والقدس، ودفعهم باتجاه تسهيل تهريب اليهود وهجرتهم إلى فلسطين، وتسهيل إقامتهم فيها، وشراء الأراضي والأملاك من كبار التجار والمُلاك خدمةً لمصلحة المشروع الصهيوني.

ولا يمكننا أن نغفل فساد الإدارة التركية في متصرفية القدس، واتساع مجال الرشوة لديهم، وتسهيلهم لكل الأنشطة والأعمال التي كان يقوم بها القناصل الأوروبيون، إضافة إلى أساليب الخداع والتمويه الذي مارسه اليهود.

بدأت حركة الاستيطان اليهودي عام (1855) عندما تمكَّن اليهودي موشي مونتفيوري، المتمتِّع بالحماية الإنجليزية من شراء أرضٍ خارج مدينة القدس من غصون ابنة حسين آغا الدزدار، وبُنِي عليها بعد أربعة سنوات، بعد أخذ الإذن بالبناء من إسطنبول، إذ بُنِي عليها عشرون بيتًا، ليكون هذا الحي أول مستوطنة يهودية في فلسلطين.

تتابع الأمر بعد ذلك، ومع مرور الوقت ازداد عدد اليهود في فلسطين، فعلى سبيل في سنة (1880) بلغ عدد اليهود في فلسطين حوالي 25000 نسمة؛ أي ما يمثل 5% من السكان، الذين كان أغلبهم من المهاجرين، وتركزوا في أواخر القرن العشرين في القدس بصفة رئيسة، وطبرية، وصفد، والخليل، باعتبارها مدن مقدسة لدى اليهود.

تأسست أول مستوطنة صهيونية في خلال عصر الدولة العثمانية على يد اليهودي موشي مونتفيوري، وبُني فيها عشرون بيتًا.

ومن الحركات الصهيونية اليهودية التي هاجرت إلى أرض فلسطين حركة “خيبات تسيون”؛ أي العودة إلى فلسطين، وقد جاءت ردةَ فعلٍ على المذابح التي وقعت في روسيا لليهود، واتجه جزء من الشباب اليهود في الجامعات الروسية من جماعة تُدعى “بيلو” إلى فلسطين خلال الفترة من سنة 1882-1884، وبدأوا بالتعاون في وضع أساس المستوطنات اليهودية واستمرارها.

والحقيقة أن الأمل الذي عقده غالبية السكان العرب على وصول تركيا الفتاة عام (1908) إلى السلطة، وإحلالها محل السلطان الأحمر عبدالحميد الثاني، الذي سرعان ما أصابه الإحباط، وقد أثارت سياسة تتريك الأقاليم العربية، واستخدام اللغة التركية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة، الاحتجاج والممارسات المعادية للأتراك.

اتضحت ردة الفعل العربية من خلال ما أشارت إليه الصحف الفلسطينية المحلية، إلى ممارسة جماعات الضغط في الدول الغربية العمل لصالح اليهود، بعد قيام ثورة تركيا الفتاة، وأن السكان العرب أصبحوا لم يحتملوا المنافسة معهم؛ إذ إن المهاجرين الجدد لم يكونوا يدفعون الضرائب العثمانية الباهظة، وكذلك لم يكونوا يعانون من الفساد الفظيع للسلطات التركية المحلية، لوجودهم تحت حماية القناصل، إضافة إلى قدرة اليهود على تنظيم أنفسهم والمنافسة مع غيرهم وكذلك النمو الاقتصادي السريع.

كما أسهمت بعض الصحف الغربية في الدعوة إلى الهجرة إلى فلسطين، من خلال استعراضها حياة المهاجرين في فلسطين، وتحسن معيشتهم وحياتهم، وعن مشاركة اليهود في هيئات السلطة البلدية المحلية.

ازداد عدد اليهود في فلسطين، فبحلول عام (1914) أصبح سكان القدس من اليهود حوالي خمسة وعشرين ألف نسمة، وفي طبرية حوالي خمسة آلاف نسمة، وصفد سبعة آلاف نسمة، وفي حيفا حوالي عشرة آلاف نسمة، وسرعان ما ظهرت في ضواحي يافا مدينة تل أبيب التي كانت تسكنها أغلبية يهودية، ومع ازدياد الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين ازدادت مقاومة العرب لتلك الهجرة، واختلفت أشكالها وأصبحت أكثر تنظيمًا، ونشر الصحفيون العرب في المطبوعات الدورية قائمة بكل المستوطنات اليهودية، ومعلومات عن المستوطنين، وكذلك أسماء من باعوا أراضيهم لليهود وقسموهم إلى ثلاث فئات:

 | مُلاك الأراضي، وكثير منهم من أصول لبنانية، لم يمارسوا الزراعة وفلاحة الأرض.

 | السلطات التركية، التي كانت تصادر أراضي الملاك العرب لعدم سدادهم الضرائب، ثم تبيعها على اليهود.

 | ملاك الأراضي العرب، وغالبيتهم من النصارى.

وقد مارس صهاينة اليهود أساليبهم المعهودة؛ من ممارسة تقديم الرشوة إلى الباشوات، بهدف السماح لهم بشراء قطع الأراضي في فلسطين، وحذَّر العرب رجال الاتحاد والترقي بخطورة الهجرة اليهودية على الأتراك قبل العرب، ورغم الاحتجاجات والبرقيات العربية إلى إسطنبول من تجريد السكان العرب من أراضيهم من قبل المنظمات الصهيونية، إلا أنها لم تكن ذات جدوى.

سار رجال الاتحاد والترقي على نفس سياسة العثمانيين في دعم الحركة الصهيونية والسماح لهم بالتوسع في إنشاء المستوطنات.

  1. أحمد حلمي سعيد، النشاط اليهودي في الدولة العثمانية (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2011).

 

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. إيرما لفوفنا فادييفا،اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).

 

  1. مروان فريد جرار، ” الاستيطان الصهيوني في مدينة القدس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى العام 1967م”، مجلة الدراسات الاجتماعية، جامعة العلوم والتكنولوجيا، فرع جنين، ع. 38 (2013).