قنّنوا البغاء ونشروه في بلاد المسلمين

"العثمانية"...

الدولة التي أصدرت الفتوى الشرعية لممارسة "الرذيلة"

هل كان ما فعله سلاطين الترك من إشاعة الفسق والفجور وترويج البغاء بين المسلمين والعرب، يعود إلى طبيعتهم البشرية المُنحلّة رغم زعمهم الحكم باسم الإسلام؟، أم أن هذا منهج اتبعه بنو عثمان لتدمير العرب الذين حقدوا عليهم بعد أن تسيّد العرب العالم وحكموا بالعدل والإنصاف؟

هذا السؤال توقف عنده مؤرخون كُثر أدهشهم ما وصلت إليه الدولة العثمانية من استعباد الجسد البشري، رغم أنها ادّعت الحُكم بالإسلام الذي كرّم الإنسان وصان جسده وروحه، وسُمي سلاطينهم -زورًا- بـ”الخلفاء”.

ورغم أن ظواهر الشذوذ والدعارة قديمة قدم الإنسانية وعرفتها كل إمبراطوريات التاريخ، لكن في النهاية ظل الأمر ظواهر مجردة مُستهجنة من أصحاب الفطرة السليمة، وفي أوقات كثيرة خضع من يرتكب تلك الأفعال إلى العقاب، لكن الدولة العثمانية كانت الأولى التي لم تفعل ذلك بل قننّت الفسق والفجور وأباحته للجميع وفوق ذلك توسعت فنشرت البغاء، وهو مفهوم أوسع من الشذوذ والدعارة.

منظومة القوانين التي أباحت البغاء وشجّعت عليه لم تصدر في عهد سلطان واحد أو حقبة زمنية لها ظروف بعينها مثلًا، بل إن كثيرًا من سلاطين الترك ساهموا في ذلك وهو ما دفع المؤرخين إلى اعتبار أن بني عثمان كانوا سلاطين البغاء قولًا وعَمَلًا.

سليمان القانوني (1520-1566) قنن الدعارة بموجب فتوى أصدرها من مفتي دولته أبو السعود أفندي عام (1531)، مكملاً في ذلك مسيرة محمد الفاتح (1444-1481) في إسقاط عقوبة اللواط، وفي فترة متأخرة عهد عبدالمجيد الأول (1823-1861) الذي أمر بفتح بيوت لأفعال الشذوذ دون أي عقوبة.

سليمان القانوني أصدر أول قانون لإباحة البغاء.

أما كيفية تقنين البغاء في عهد سليمان القانوني، فإنه بالعودة إلى السياقات التاريخية في عام (1531) تمرَّدت القبائل الغجرية ضد سلاطين الترك، ولإحتواء تلك الأزمة بحسب ما ذكر المؤرِّخَينِ “أحمد آقكوندوز وسعيد أوزتورك”، وهما من أبرز المدافعين عن بني عثمان،  في كتابهما “الدولة العثمانية المجهولة”، لجأ سليمان القانوني لتأسيس “سنجق الغجر” وهو قانون يقضي بتشكيل كتائب عسكرية من الغجر تحت ولاية حاكم الغجر وهو ما عرف فيما بعد بـ “قانون الغجر في إيالة روم إيلي”. وتضمن هذا القانون -لأول مرة- فرض ضرائب على الممارسات الجنسية غير المشروعة للغجريات، وهو أول تقنين رسمي للبغاء، وبلغت الرسوم وقتها مائة أقجة شهريًّا من نساء الغجر.

ورغم محاولات المؤَرِّخَين “أحمد آقكوندوز وسعيد أوزتورك”، إظهار أن تقنين البغاء كان لظروف بعينها أرغمت سلاطين الترك لاتخاذ هذا القرار، فإن الحوادث التي وقعت بعد ذلك تقول: إن هذا غير صحيح وأن نشر الفجور لم يكن إلا منهجية لدى سلاطين الترك، فبعد أن تحوّلت بلادهم إلى حانات وبيوت للدعارة، بدأوا في الترويج لذلك في الوطن العربي.

وأسباب كثيرة تشير فيها المصادر التاريخية إلى هذا الفعل العثماني، منها أنهم قصدوا بتصدير البغاء، تفكيك وحدة الأسرة الإسلامية ونشر التَّفَسُّخ والرذيلة مقدمةً للتحكم في الجميع، بالإضافة إلى خلق جيل جديد ليس لهم هَمٌّ سوى الملذّات وتلبية الرغبات، هو أمر يصب في النهاية في مصالحهم، وكما أكدت المرويات التاريخية فإن هذا كان أحد أسباب ضعف العالم العربي حتى القرن العشرين قبل أن يُطْرَدَ الأتراك منه.

الشام كانت الساحة الأقرب والأكبر التي استطاع فيها باشوات الدولة العثمانية نشر الظواهر الشاذة، وكما يوضح المؤرخ السوري أحمد البديري في كتابه “حوادث دمشق اليومية”، فإنه في عصر الدولة العثمانية “زاد الفساد وظُلِم العِباد وكَثُرَت بنات الهوى في الأسواق في الليل والنهار كاشفات الوجوه سادلات الشعور”.

ولم يكن نفوذ بائعات الهوى بالخفي عن أحد، رغم وجودهن في مجتمعات محافظة كبلاد الشام، لكن في النهاية هن في حماية سلاطين الترك الذين لم يكترثوا لأحد، ويروي “البديري” أن هناك واحدة من بنات الهوى عشقت غلامًا تركيًّا فمرض، فنذرت على نفسها إن عوفي لتقيمن له مولدًا وحين عوفي الغلام، جمعت مومسات البلد ومشين في أسواق الشام حاملات الشموع والقناديل وهن يغنين ويصفقن بالكفوف فما كان من الأهالي إلا الصياح بـ”الله أكبر” قاصدين أن الله قادر على تخليصهم من بني عثمان سلاطين البغاء.

وبدلًا من أن يلتفت سلاطين الترك إلى حدود البلاد وتأمينها ، وتوفير حياة آمنة للمسلمين، خصصوا فرقًا عسكرية كل مهمتها الإشراف على البغاء، وهذا ما حدث في القاهرة كما يوضح المؤرخ العثماني أوليا جلبي، الذي يكشف كتابه “الرحلة إلى مصر والسودان والحبشة” أن مهنة البغاء التي نشرها سلاطين الترك في القاهرة كانت تجري تحت إشراف فرق الأوجاقات العسكرية العثمانية، كما أن شبكات الدعارة في القاهرة اتخذت شكلًا تنظيميًّا ينقسم لبغايا ودياثة وقوَّادين.

ويلقي محمد نيازي في كتابه “جرائم البغاء – دراسة مقارنة” مزيدًا من الضوء على مؤسسات البغاء في القاهرة، فيوضح إنه في الربع الأخير من القرن السابع عشر، كان البغايا يُسَجَّلن في سجلات الشرطة وتحصى أعدادهن، وتحفظ الشرطة هذه السجلات التي تضم أسماء محترفي البغاء من النساء والذكور لأغراض الضرائب.

كما يوضح عبد الوهاب بكر في كتابه “مجتمع القاهرة السري” أن هناك ثلاثة قادة أشرفوا على مهنة البغاء في مصر، أحدهم في القاهرة والثاني في بولاق والثالث في مصر القديمة، وهي مناطق مصرية متفرقة، وكانوا جميعا تحت إدارة قائدة الشرطة، وهو ما يعني أن الدولة العثمانية اعتمدت البغاء ركيزةً أساسية في حكمها.

أصبح "البغاء" تجارة جنوا منها الضرائب.

وفي الجزائر اكتُشف بُعدٌ آخر لمنظومة البغاء عند سلاطين الترك، فالمؤرخ الأميركي وليام سبنسر يقول في كتابه: “الجزائر في عهد رياس البحر” أن مهنة البغاء في الجزائر كانت على أساس الاستعلاء التركي، ففي الوقت الذين جعلوا فيه نساء كافة الأعراق متاحات أمام تلبية الغرائز الحيوانية لجنود العثمانيين، تشددوا في منع التركيات من ممارسة هذا الفعل المشين، ووضعوا حراسة خاصة على التركيات خصيصًا لمراقبتهن.

هذا الاستعلاء العرقي بإتاحة النساء غير التركيات للبغاء، أدى في النهاية إلى خلق ظاهرة أخرى أبشع وهي أن جنود سلاطين العثمانيين -خاصة الإنكشارية-، كانوا يُفَضِّلون الانخراط في الحروب في الشام ومصر والجزائر من أجل الاستمتاع مع البغايا؛ إذ إن التركيات ممنوع عليهن ذلك إلا مع السلطان.

كما تُرجح مصادر تاريخية أن قوام الضرائب الرئيسي في عصر الدولة العثمانية كان يأتي من تجارة البغاء وأسواق النخاسة التي انتشرت في كل البلاد التي حكمها سلاطين العثمانيين الذين شجّعوا هذا ورّوجوا له.

  1. أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتورك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول، مكتبة عمرو توران، 2008).

 

  1. وليام سبنسر، الجزائر في عهد رياس البحر (الجزائر: دار القصبة للنشر، 2011).

 

  1. أحمد الحلاق، حوادث دمشق اليومية (القاهرة: مطبعة لجنة البيان العربي، 1959).

 

  1. أوليا جلبي، الرحلة إلى مصر والسودان والحبشة (القاهرة: دار الآفاق العربية، 2006).

 

  1. محمد حتاتة، جرائم البغاء – دراسة مقارنة (القاهرة: مكتبة وهبة 1983).

 

  1. عبد الوهاب بكر، مجتمع القاهرة السري 1900–1951 (القاهرة: مؤسسة العربي، 2001).