بطشوا بالأهالي واستباحوا المدينة

جرائم العثمانيين في فاس

لكل دولة أثر، رائحة تُشتّم فيها ممن مرّوا هنا، وحين ترى الأرض ارتوت بدماء الأبرياء، والسجون مُلئت بالمظلومين، والحضارات هُدمت والمساجد دُنسّت، تعرف أن الأتراك كانوا هنا، ذلك دأبهم ودينهم وديدنهم.

و مر الأتراك بفاس المغربية ، لكن قبل كشف جرائمهم، يجب القول بأن المغرب هو الكيان السياسي الوحيد في شمال إفريقيا الذي لم يخضع لآل عثمان، رغم أنه ظل هدفًا استراتيجيًّا ثابتًا في الأجندة التوسعية للأتراك، هذا الاستثناء المغربي يستند إلى حضور عنصر الأمة المغربية المتمايزة سلوكيًّا وتراثيًّا وحضاريًّا.

وكما هي عادتهم دائمًا، تربص الأتراك بالوضع السياسي الداخلي للمغرب، منتظرين ظروفًا تدفعهم إلى التدخل، مثل انشقاقات على مستوى رأس السلطة السياسية، أو وجود مد شعبي يطالب بالانضواء تحت لواء دولة العثمانيين، إذ نشطت الدولة التركية في هذا الباب من خلال محاولة استمالة العديد من الفقهاء إلى طرحها، وتحويلهم إلى طابور خامس يروّج لأجندات الباب العالي في المغرب الأقصى.

في هذا السياق، دعم الأتراك أبا حسون الوطاسي لمحاربة الدولة السعدية، فدخلوا مدينة فاس (1554)، وفور احتلالهم مارسوا جميع أنواع الفساد والقمع، وشاعت بينهم مظاهر الفسق والمجون، ووصل بهم الأمر  إلى محاولة الانقلاب على السلطان الوطاسي نفسه، وهو ما تناوله عبد الرحيم بنحاده، مُحقق كتاب تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، بالقول: “ولما رأى الترك محاسن البلاد أعجبتهم وأخذوا غرتها وكتبوا بذلك إلى الجزائر وأرادوا القيام على أبي حسون، وكانت أحكامه مرفوعة عنهم وكانوا يفعلون ما أرادوا في المدينة، يقبضون النسوان والصبيان وينهبون ما أرادوا، فضاقت الرعية من سوء فعلهم” .

بمجرد أن احتل الأتراك مدينة فاس نشروا الفساد والفسق وبطشوا بالأهالي خاصة النساء والأطفال

وجد الأمير أبو حسون نفسه في وضع لا يُحسد عليه، فقرر الاستقلال بقراره السياسي وعدم الرجوع إلى الأتراك في أمور الحكم، فما كان من هؤلاء إلا أن ألقوا القبض عليه واحتجزوه، وهو ما كانت له ردة فعل عكسية لدى سكان مدينة فاس الذين أعلنوا العصيان على الأتراك وهجموا عليهم لتخليص أميرهم.

 ومن على أسوار المدينة، خطب أحد الشيوخ ويدعى الساغي قائلًا: “اعطونا السلطان إن كان حيًّا وعليكم الأمان وانصرفوا إلى بلادكم، وإن كان ميتا فانظروا إن كان لكم على من تنادون وتصيحون”، وأمام هذا التهديد لم يجد الأتراك بُدًّا من إطلاق سراح الأمير الوطاسي والعودة إلى الجزائر بعد أخذ المال الذي وعدهم به وغادروا المغرب بعد أن تركوا في المدينة ذكريات أليمة ما زالت تتداولها كتب التاريخ التي تناولت دخول العثمانيين إلى عاصمة المغرب آنذاك.

بعد ذلك، نجح السلطان أبو عبد الله الشيخ في استرجاع مدينة فاس، بعد معركة حامية الوطيس قُتِل فيها أبو حسون الوطاسي، ليعقد العزم بعدها على طرد الأتراك من شمال إفريقيا، وتروي كتب التاريخ قوله: “لا بد لي أن أغزو مصر وأُخرج الترك من أحجارها”، وكان يطلق على السلطان العثماني “سلطان الحواتة” في إشارة إلى عمله مع القراصنة واللصوص.

وظل السلطان العثماني سليمان القانوني، يُرسل الوفود تلو الوفود لإقناع السلطان السعدي بالاعتراف به أميرًا للمؤمنين، والدعاء له فوق المنابر، وسكّ العملة باسمه، إلا أن أبا عبد الله الشيخ رفض ذلك بشكل قاطع، واعتبر مبادرة السلطان العثماني استفزازًا غير مقبول للأشراف المغاربة فرد على رسول سليماني القانوني ردًّا قاسيًا جاء فيه “لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله وحينئذ أكتب لسلطان القوارب”.

بعد هذا الرد القوي، عمل العثمانيون على تحريك كتيبة الاغتيالات المتواجدة في الجزائر، والتخطيط لاغتيال السلطان المغربي، بناء على أوامر سليمان القانوني الذي طلب أن يأتوه برأس السلطان السعدي، ويروي لنا المؤرخ المغربي الإفراني حيثيات اغتيال السلطان المغربي فيقول: “فبعثوا -أي أتراك الجزائر- رجلاً من أبطالهم يقال له صالح الكاهية في شرذمة من أجنادهم، مُظهرين للسلطان السعدي محمد الشيخ أنهم هربوا من العثمانيين ورغبوا في خدمته والتحصّن به ممن طلبهم، ونيّتهم المكيدة والاغتيال حيث أمكن”.

وبعد أن حظي الحشاشون الأتراك بثقة السلطان السعدي أبي عبد الله، استغلوا خروجه إلى جبال درن، ليقوموا بجريمتهم بطريقة بشعة لا تختلف عن الطرق التي تسلكها التنظيمات الإرهابية، إذ ضربوا رأسه بساطور، وقطعوا رأسه وأرسلوها إلى القسطنطينية، وعلقوها على أحد أبوابها، وبقي رأس السلطان معلقًا إلى أن تلاشى بفعل العوامل المناخية المتعاقبة، أما ما تبقى من جثته فحُمِلَ إلى مراكش حيث دفن.

  1. محمد الصغير الإفراني، نزهة الحاضي بأخبار ملوك القرن الحادي، تحقيق: عبداللطيف الشاذلي (فرنسا: مطبعة أنجي، 1888).

 

  1. مؤلف مجهول، تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، تحقيق: عبدالرحمن بنحاده (مراكش: دار المقالات، 1994).

 

  1. أبي العباس شهاب الدين الدرعي السلاوي، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت).