دبّروا اغتياله وعلّقوا رأسه في إسطنبول

بالغدر... العثمانيون قتلوا سلطان المغرب

تدفع بعض الدول ضريبة موقعها المميز، حيث يطمع فيها الغزاة من كل حدب وصوب، ويتطلع إليها مجرمو التاريخ، ذلك ما حدث مع المغرب العربي الذي يعدّ أقرب نقطة إلى غرب أوروبا، بجانب سواحله الطويلة على المحيط الأطلسي.

وبسبب ذلك اتجهت إليه أنظار البرتغاليين والإسبان، وعملوا على احتلال عدد من المراكز على سواحله منذ بدايات القرن السادس عشر الميلادي، مستغلين سوء الأوضاع الداخلية وضعف السلطة المركزية في فاس، وعجزها عن الدفاع عن كيانها السياسي، ما أدى إلى حالة من التشرذم.

وخلال تلك المرحلة انتشرت الدعوة السعدية، التي أخذت في التمدد في المغرب وظهر قادتها على أنهم محررو السواحل المغربية من الاحتلال الأجنبي، ولم يأت عام (1549)، حتى سيطر السعديون على المغرب، وفي نفس الوقت كان الأتراك يسيطرون على تلمسان في الجزائر، ومن ثَمَّ أصبح هناك خط مباشر بين السعديين والأتراك.

وتشير الوثائق التاريخية إلى أن السلطان السعدي أبا عبد الله الشيخ كان حذرًا من الأتراك لمعرفته بإجرامهم، ويقول المؤرخ المغربي، الناصري السلاموي: “إن أبا عبد الله السعدي كان يعزّ عليه استيلاء الترك على المغرب الأوسط (الجزائر) مع أنهم أجانب ودخلاء”.

وزاد من هذا العداء، أن أبا حسون الوطاسي، عدو السلطان السعدي، فرّ إلى الأتراك الذين عملوا على استغلاله، وفي عام (1554) تمكّن أبو حسون مع حاكم الجزائر صالح باشا من هزيمة أبي عبد الله الشيخ وإخراجه من فاس، لكن سرعان ما رد السلطان السعدي باستنفار القبائل وإعادة الزحف، فدارت حروب شديدة كان آخرها النصر لأبي عبد الله الشيخ، مستردًا فاس، ومسيطرًا على أمر المغرب بعد ذلك.

وتكشف الوثائق التاريخية احتقار أبي عبد الله الشيخ للسلطان العثماني سليمان القانوني، الذي أسماه بسلطان القوارب في إشارة إلى قراصنة المراكب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تمكّن السلطان السعدي من الوقوف بقوة واعتزاز، أمام الأطماع العثمانية وتمسّك باستقلال بلاده وحريتها، ولكن بما أن الأتراك لم يعرفوا معاني الفروسية والشرف، لجأوا -كعادتهم- إلى الغدر والقتل غيلة، وهو أمر ليس بجديد عليهم، فالاغتيالات سياسة آل عثمان ضد كل من يعترضهم.

استطاع السلطان أبو عبد الله الشيخ الوقوف بقوة واعتزاز أمام العثمانيين ورد عدوانهم عن المغرب

فلما علم السلطان العثماني سليمان القانوني بخبر سقوط حلفائه من بني وطاس، وسيطرة السعديين على المغرب الأقصى، حاول أن يستميل الأخيرين إلى جانبه أولا، فكتب رسالة إلى أبي عبد الله الشيخ يُهنئهُ بالمُلك، ويطلب منه الدعاء له على منابر المغرب وبعث بذلك رسولاً، ولما قرأ السلطان السعدي كتاب القانوني، حمى أنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرسول التركي وأزعجه، فطلب منه الجواب، فقال: “لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله وحينئذ أكتب لسلطان القوارب”، فخرج الرسول من عنده مذعورًا يلتفت وراءه إلى أن وصل إلى سلطانه”.

ويقول المؤرخ الناصري السلاوي: “لما خرج رسول السلطان سليمان العثماني من عند السلطان أبي عبد الله الشيخ ووصل إلى الجزائر ركب البحر إلى القسطنطينية فانتهى إليها، واجتمع بالصدر الأعظم، وأخبره بما لقي من سلطان المغرب، فأنهى الوزير ذلك إلى السلطان سليمان فأمره أن يهيئ العساكر لغزو المغرب، فاجتمع أهل الديوان، واتفق رأيهم على أن يعيّنوا 12 رجلاً من فُتَّاك الترك وبذلوا لهم 12 ألف دينار، وكتبوا لهم كتابًا إلى صالح الكاهية، وهو قائد تركي انضم إلى عساكر السلطان السعدي بعد هزيمة بني وطاس، ووعدوه بالمال والمنصب إن اغتال الشيخ وأحضرَ رأسه.

ويتابع الناصري بقوله: “توجهت الجماعة المعينة إلى الجزائر بحرًا، ولما وصلوا اشتروا بغالًا وساروا إلى فاس في هيئة التجّار، فباعوا بها أسبابهم وتوجهوا إلى مراكش، ولما اجتمعوا بصالح الكاهية أنزلهم عنده ودبر الحيلة في أمرهم”.

ويردف المؤرخ المغربي بالقول: “أظهر هؤلاء الأتراك للسلطان أبي عبد الله الشيخ أنهم فروا من سليمان القانوني، ورغبوا في خدمة الشيخ والاستجارة به، ثم إن صالحا الكاهية دخل إلى الشيخ وقال: “يا مولاي إن جماعة من أعيان جند الجزائر سمعوا بمقامنا عندك ومنزلتنا منك فرغبوا في جوارك والتشرف بخدمتك وليس فوقهم من جند الجزائر أحد وهم -إن شاء الله- السبب في تملكها”، فأمره بإدخالهم عليه ولما مَثَلُوا بين يديه رأى وجوها حِسانًا وأجسامًا عِظامًا فأكبرهم، ثم ترجم له صالح كلامهم، فأفرغه في قالب المحبة والنصح والاجتهاد في الطاعة والخدمة، حتى خُيّل إلى الشيخ أنه قد ملك الجزائر، فأمره بإكرامهم وأن يعطيهم الخيل والسلاح، وأن يدخلوا عليه مع الكاهية كلما دخل، فكانوا يدخلون عليه كل صباح لتقبيل يده على عادة الترك في ذلك”.

انطلت الخدعة على السلطان السعدي، حتى صار يبعث بالأتراك إلى شيوخ السوس ليتبصروا في البلاد ويعرفوا الناس، وكان يُوصي الأشياخ بإكرام من قدم إليهم منهم، واستمر الحال إلى أن أمكنتهم منه الفرصة، وهو في بعض حركاته بجبل درن، فدخلوا إليه في غفلة من العسس، فضربوا عنقه، وحملوا رأسه وسلكوا عدة طرق، ووصلوا إلى الجزائر ومنها إلى إسطنبول، فأوصلوا الرأس إلى الصدر الأعظم، الذي أدخله على السلطان سليمان فأمر به أن يُجعل في شبكة نحاس، ويٌعلّق فوق باب القلعة، والحقيقة أنه بعد تأكد اغتيال السلطان السعدي ابن الشيخ، لم يتزعزع يقين أهل المغرب، ولم يؤثر ذلك في إصرارهم على التمسك بالحرية والاستقلال ضد أي محتل أجنبي كائنًا من كان.

  1. بجوي إبراهيم افندي، تاريخ بجوي إبراهيم افندي، ترجمة: ناصر عبد الرحيم حسين (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2015).

 

  1. جمال الدين الرمادي،” المغرب أضواء على تاريخيه السياسي ووضعه الاقتصادي”، (القاهرة: مجلة مصر المعاصرة، م 58، ع 327، 1967).

 

  1. عبد الكريم كريم، المغرب في عهد الدولة السعدية، ط3 (الرباط: منشورات جمعية المؤرخين المغاربة، 2006م)

 

  1. محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، ط2 (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 2008).