أرسلوا ثمانية طوابير عسكرية نظامية
الملك عبدالعزيز واجه العثمانيين باستراتيجية التطهير في "البكيرية"
شكّلت معركة البكيرية في 15 يونيو (1904م) استمرارًا للسياسات العثمانية في محاولاتها المتكررة لبسط سيطرتها ومحاولة احتلالها الجزيرة العربية، وامتدادًا للحروب التاريخية مع الدولة السعودية، التي أُسدل ستارها بانتصارٍ سعودي ساحق على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (طيب الله ثراه) بتأسيس المملكة العربية السعودية، بعد قرابة قرنين من التدافع العنيف من أجل طرد المحتل وتأسيس كيان عربي وطني سعودي خالص، يرفع راية الإسلام ويحمي الحرمين الشريفين من احتلال الترك بإعادتهما إلى حاضنتهما العربية.
لعب العثمانيون مرة أخرى على الصراعات الداخلية من أجل التدخل لفائدة طرف على حساب آخر بين القوى السياسية كعادتهم لضمان تبعية وولاء قوى ضد أخرى، وذلك كي يستمروا في محاولتهم بوضع اليد على الجزيرة العربية، تلك اليد التي اعتاد السعوديون على بترها دائمًا كلما امتدت لحدودهم، وهي أيضًا الاستراتيجية التي ظلت معطىً ثابتًا في التعاطي الاستعماري العثماني على مرِّ التاريخ.
كانت معارك التوحيد التي خاضها الملك عبدالعزيز بالسعوديين لتوحيد الوطن؛ مُضطرة إلى الدخول في حروبٍ مع كيانات سياسية محليَّة عدَّة، وهذا ما جعل العثمانيين يستغلون الأمر لصالحهم في التحالف مع خصوم الملك عبدالعزيز، ذلك دعا إلى تجاوز منطق التدافع الداخلي إلى حرب تحرير ضد الهيمنة العثمانية وفرض إرادة أصحاب الأرض.
حاول العثمانيون اللعب بورقة الفتنة -كعادتهم-؛ لتتكرر صور هزائمهم المذلَّة.
في هذا الصدد، قامت الدولة العثمانية بالتحالف المبني على المصلحة الصرفة بينها وإمارة آل رشيد ممثلةً في حاكمها عبدالعزيز بن رشيد في حائل الذي وظفته في صراعها مع الملك عبدالعزيز، إذ كانت الإمارة تتطلع إلى الدعم العسكري والمادي، بينما طمح العثمانيون في وضعها حامية ومستعمرة لهم ينطلقون منها ضد الملك عبدالعزيز لإيقافه في مرحلة التوحيد. وبناءً على ذلك أمدّ العثمانيون ابن رشيد بعدد من الجنود النظاميين ومعهم أسلحة حديثة من المدافع والمؤن، وقد بلغ عدد الجنود الذين أرسلوا حوالي 1500 جندي عثماني. ووقعت معركة البكيرية (1904) نتيجةً حتميّةً لحالة التعبئة العثمانية لابن رشيد ضد الجيش السعودي، وأهم ما ميّز المعركة أنها كانت محطة حاسمة في الصراع السعودي العثماني.
تتفق الوثائق التاريخية على أن الملك عبدالعزيز قسَّم جيشه إلى قسمين: القسم الأول والأكبر لمواجهة قوات ابن الرشيد، بينما تكفل القسم الآخر من الجيش بمواجهة الجيش العثماني التركي الأقل عددًا نسبيًّا مقارنة مع قوات حليفه جيش ابن رشيد.
وخلال المواجهات استخدم الملك عبدالعزيز خطة تكتيكية بارعة، تنم عن فطنة وإدراك عميق لتوجيه المعركة لصالحه، إذ أراد أن يقسم قوات الأعداء والخصوم، وفرض على أرض المعركة إرادته، حينما أمر القسم الأول من جيشه أن يتظاهروا بالانهزام تكتيكيًّا في الوقت الذي يتفوق فيه القسم الثاني على الجيش النظامي العثماني، ثم يستجمع القوات السعودية كاملةً لتتفرغ للإجهاز على القسم الأكبر وهم قوات ابن الرشيد، معلنًا بذلك نهاية المعركة عن انتصارٍ ساحق للسعوديين على القوات العثمانية وحليفهم.
نتيجة المعركة كانت صادمة للعثمانيين، إذ كانوا يتوقعون أن ينتصروا في معركةٍ أرسلوا إليها ثمانية كتائب نظامية من كتائبهم العسكرية القوية، وعززوا هذه الكتائب بقوات ابن رشيد نوعا من زيادة التأكيد لحسم المعركة لصالحهم.
لكن ما لم يكن في حُسبانهم أنهم يتعاملون مع شخصية عسكرية واستراتيجية من الطراز الأول متمثلةً في الملك عبدالعزيز، كعادة السعوديين وأئمتهم دائمًا ما يفاجئون الأعداء العثمانيين في أرض المعركة، حيث تكرر هذا السيناريو في عصر الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، فكم مرةً جاء العثمانيون بخيلاء وثقة بأنهم سينتصرون، وتلطمهم المفاجأة بالهزيمة، رغم أن حساباتهم على الأرض ترجح كفتهم عددًا وعدَّة، لكن السر فيما كانوا يفتقدونه مقابل السعوديين باستمرار: القيادة الحكيمة والشجاعة والإيمان الصادق في الدفاع عن العقيدة والوطن.
كانت المعركة الفاصلة التي قضت على الفتنة العثمانية في الجزيرة العربية.
لذلك كانت معركة البكيرية من أواخر فتن العثمانيين التي حاولوا استغلالها لفرض استعمارهم للمنقطة العربية والجزيرة العربية على وجه التحديد، في الوقت الذي كانت فيه دولتهم بمثابة الرجل المريض، تتآكل يومًا بعد آخر قبل أن تسقط نهائيًّا على يد مصطفى كمال أتاتورك سنة (1924).
- أمين الريحاني، تاريخ نجد وملحقاته، ط4 (بيروت: دار الريحاني، 1970).
- بندر بن ناحل، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود عبقريته العسكرية وحنكته السياسية (الرياض: الحرس الوطني، 1999).
- حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935).
- خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985).
- عبد الله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط 12 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2003).