اخترقوا عقول السلاطين وسيطروا على أخطر المناصب
يهود الدونمة صهاينة داخل قصور الحكم العثمانية
تُعد دراسة تاريخ العلاقة بين اليهود والدولة العثمانية، المفتاحَ التاريخي لفهم التجاذبات والتفاهمات المتناغمة بين التُّرك والصهاينة، فقد كان اليهود يبحثون عن إنقاذ العِرق، وعن بيئة حاضنة لهم ولأموالهم، بينما كان العثمانيون في حاجة إلى أموال اليهود وخبرتهم للمساهمة في المشروع الاستعماري والتوسعي للدولة.
وعلى الرغم من الحرية التي تمتع بها اليهود تحت حماية الدولة العثمانية، فإن واقع الشتات وحلم بناء دولة بهوية دينية، ظل يحرك اللاشعور الجماعي لصهاينة اليهود، وأمام هذا الإكراه المؤسساتي والهوياتي، فقد طفت على السطح فرقة “يهود الدونمة” في القرن 17 على يد سبتاي زيفي (1626-1675)، وادعى بأنه المسيح المخلص الذي جاء لينقذ بني إسرائيل، وينهي حالة الشتات التي كان عليها أتباع الديانة اليهودية، وإنشاء مملكة إسرائيل في أرض الميعاد.
إن ظهور طائفة الدونمة يشكِّل الإرهاصات الأولى لتبلور مفاهيم الصهيونية في بُعدها الأيديولوجي والسياسي، على اعتبار أن دعوة سبتاي زيفي كانت تعبيرًا شاذًّا لم يتقبله حتى بعض يهود الدولة العثمانية، وهو ما دفع ببعضهم إلى الوشاية بصاحب “الدعوة الجديدة” لدى البلاط العثماني، ليضطر إلى إشهار إسلامه ولو “تُقية”؛ خشية اتهامه بالخروج على الدولة العثمانية وتأسيس تنظيم يسعى إلى الانفصال عن السلطنة، فاختار الإسلام وتسمى باسم “محمد عزيز أفندي”.
كان ظهور يهود الدونمة يشكل الإرهاصات الأولى للحركة الصهيونية التي احتلت فلسطين بتفاهمات عثمانية فيما بعد.
وإذا كان البعض يقطع بأن يهود الدونمة كانت لهم أهداف سياسية تمكينية، تطمح إلى السيطرة على السلطنة العثمانية من داخلها، بتحقيق مشروع سياسي متكامل يهدف إلى فك ارتباط الدولة العثمانية عن الولايات العربية من جهة، وزيادة سخط الشعوب الإسلامية على سياسة التتريك من جهة أخرى، فإننا نعتقد بأنهم كانوا يريدون تحقيق حلم الدولة خارج حدود الدولة العثمانية، التي لم تكن يومًا أرضًا للميعاد، على خلاف باقي المناطق التي كان يتم الترويج لها (فلسطين، اليمن، الحبشة…). هذا المعطى تُؤكده دعوة سبتاي نفسه، الذي نادى بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بالذات.
ولعل ما يؤكد هذا الطرح، هو غياب ردة فعل خشنة من طرف الدولة العثمانية تجاه أتباع سبتاي زيفي، سواء ممن اعتنقوا منهم الإسلام ظاهريًّا، أو ممن أصروا على الاحتفاظ بيهوديتهم، وهو ما يقطع بأن العثمانيين كانوا على علم بأن المشروع السياسي لليهود لم يكن موجهًا لإسقاط بنية الدولة، وإنما كان موجهًا لتأسيس كيانٍ سياسي على أرض فلسطين، وهو ما لم تعارضه السلطنة بأساليبها الخشنة ولو ادعى أتباعها العكس.
إن دهاء مؤسس الفرقة قد جعله يجد طريقه نحو مؤسسات الدولة العثمانية، التي قامت بتعيينه “رئيسًا للآذنين”، وهو ما أزعج أتباعه في البداية، قبل أن يقنعهم بأن هذا التكتيك هو طريقهم لنشر الدعوة الجديدة، وقد خاطبهم بالقول: “أنا أخوكم محمد البواب، هكذا أمرني فامتثلت، لقد ذكرت الكتب اليهودية المقدسة بأن المسيح سوف يُتبع من قبل المسلمين”.
علم العثمانيون أن المشروع السياسي للصهيونية لم يكن موجهًا لإسقاط بنية الدولة، وإنما كان موجهًا لتأسيس كيان سياسي في فلسطين.
ولقد مكَّنت مرونة أتباع هذه الفرقة من الوصول إلى مناصب قيادية في الدولة، ومنهم من تقلَّد منصب الصدر الأعظم كما هو الحال بالنسبة لمدحت باشا، الذي عُرف عنه أنه كان يهوديًّا يُبْطِنُ حقيقة دينه، لكي ينجح في تولي ولايات عثمانية مهمة مثل ولاية سوريا، كما يُنسب إليه عزل السلطان عبدالحميد وتدبير مؤامرة اغتياله بعد ستة أيام من عزله.
إن تأثير يهود الدونمة في القرار السياسي العثماني يرجع إلى تنبُّههم إلى قوة الإعلام وقدرته على توجيه الرأي العام وفق أجندات التنظيم، يؤكد ذلك، أنه لم يجرؤ أحد في ذلك الحين على التعرض لهؤلاء في أية صحيفة أو مجلة؛ لأن أكثر الصحف والمجلات مملوكة للدونمة.
ويمكن القول بأن يهود الدونمة قد استطاعوا اختراق بنية القرار السياسي العثماني، وساعدهم على ذلك فساد النظام وسهولة شراء المواقف، وكسب تأييد الممسكين بالقرار السياسي في الدولة، حتى الأصوات التي كانت تحاول أن تحذر منهم أو التصدي لهم كانوا يتقدمون “بالشكاوى إلى أقطاب الدولة لمصادرة الردود المعارضة لهم، والتنكيل بأصحابها” وخاصة أصحاب الجرائد والمجلات منهم.
- سنان صادق جواد “يهود الدونمة: نشأتهم وأثرهم في الدولة العثمانية حتى عام 1909″، مجلة ديالى، ع. 55 (2012).
- أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).
- إيرما لفوفنا فادييفا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية صفحات في التاريخ، ترجمة: أنور محمد إبراهيم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2020).
- ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار البشير، 2015).