اعتبروا الصهاينة شركاء استراتيجيين لدولتهم

كيف غُيرِّت حقيقة العلاقة العثمانية الصهيونية؟

القاعدة التي وضعها الأتراك لتسليم الوطن العربي للحركة الصهيونية؛ كانت التمكّين والثراء الاقتصادي، وبناءً عليها منحوا اليهود رعاية اقتصادية من البداية، في ملف مثير في تاريخ العثمانيين الذين فتحوا أبوابهم من البداية لاستقبال اليهود، لأسباب براجماتية بحتة، ترتكز على الاستفادة من ثروات اليهود، فضلاً عن خبرتهم في إدارة الشؤون الاقتصادية، وازداد هذا الأمر مع استقبال الدولة العثمانية لموجات هجرة يهود الأندلس الفارين من التعسف الإسباني البرتغالي، هذا التعسف الذي شمل في حقيقة الأمر مسلمي الأندلس ويهودهم على حدٍ سواء.

يبرر المؤرخ التركي أحمد آق كوندز سياسة الدولة العثمانية تجاه اليهود بأنها امتداد لسياسة التسامح الإسلامية تجاه أهل الذمة، هذه السياسة التي اتبعتها الدول الإسلامية على مر عصور التاريخ الإسلامي. بينما كان فتح الدولة العثمانية أبوابها لليهود، في الأساس للاستفادة الاقتصادية أولاً، فالدولة العثمانية في الحقيقة كانت ذات سياسة براجماتية، تبحث عن المنفعة الاقتصادية في الدرجة الأولى، ولا يستقيم التسليم بأنها قامت بسياستها الداعمة لصهاينة اليهود من باب الدور الاجتماعي للاجئين.

ترك استقبال العثمانيين لليهود الفارين من الأندلس أثرًا حسنًا في نفوس الصهاينة، وربط بينهم وبين الدولة العثمانية، لدرجة أن هذا الموقف قد حُفِظ في الذاكرة الجماعية الصهيونية، ولا أدل على ذلك مما قاله الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل عندما قابل عبدالحميد الثاني عام (1901) إذ عبر عن امتنانه للدولة العثمانية لاستقبالها يهود الأندلس من قبل، وطالب بتكرار الأمر من جديد من خلال سماح الدولة العثمانية بالاستيطان اليهودي في فلسطين، وإقامة المستعمرات الصهيونية، وتسهيل استثماراتهم فيها.

تحاول المراجع التركية والعربية المخدوعة نفي موافقة عبدالحميد الثاني على هذا الأمر، بينما تكشف العروض المالية والقروض التي قدمها له هرتزل وتحصلت عليها السلطنة، حقيقة ما جرى تاريخيًّا، فالعثرة الاقتصادية الكبيرة التي مرَّ بها العثمانيون في عهد عبدالحميد الثاني تؤكد أن ما تحصلوا عليه ثمنا لفلسطين تجاوزوا به بعض إشكالاتهم الاقتصادية، ومنها سداد بعض الديون بأموال الصهاينة، وإعادة جدولة سداد ما تبقى مما لم يُسدَّد. أما ما يذهب إليه تجار التاريخ من رفض عبدالحميد الثاني لهذا العرض فقد استخدم لتخفيف ردة الفعل الإسلامية والعربية، باعتبار أن أمرًا كهذا لو أُظهر للناس على حقيقته سيكون وصمة عار في تاريخهم، ومن ثم أظهروا للناس ما يعاكس واقع ما قاموا به مع الصهاينة، وروَّجوا لكذبة رفض عبدالحميد الثاني أموال اليهود مقابل فلسطين، بينما فضحتهم الوثائق والمراسلات والمذكرات، وفصحهم واقع الحال التاريخي بعد اتفاقهم مع اليهود بازدياد المستعمرات الصهيونية في فلسطين، وزيادة الاستثمارات الصهيونية في الدولة العثمانية بصفة عامة.

رغم نفي بعض المؤرخين جريمة عبدالحميد الثاني في تسليم فلسطين لليهود، أثبت واقع الأحداث والوثائق والمراسلات والمذكرات خلاف ذلك.

تشير صحيفة فلسطين قبيل الحرب العالمية الأولى إلى تنامي الاستثمارات الصهيونية في فلسطين في الوقت الذي يفترض أن المنطقة في ذلك الوقت تحت إدارة الدولة العثمانية، واتهمت هذه الصحيفة الموظفين العثمانيين بالتواطؤ مع الصهاينة.

ووصل الأمر مداه عندما أعلن ماركس نورداو رئيس المؤتمر الصهيوني عام (1911) بقوله: “غاية المسألة الصهيونية متفق عليها بالإجماع وهي السعي في إسكان كل من في الإمكان إسكانه في فلسطين من اليهود مع أخذ الضمانة من الحكومة التركية على ألا تطردهم ولا تحملهم من الواجبات والضرائب مما لا يحمله سكان فلسطين الأصليين”.

ومع الوقت تطور ارتباط مصالح الدولة العثمانية بالمصالح الاقتصادية الصهيونية في عهد الاتحاديين، ويعبر عن ذلك تمامًا تصريح سفير الدولة العثمانية في فيينا عاصمة إمبراطورية النمسا والمجر حلمي باشا، بعد لقائه بزعماء الحركة الصهيونية، إذ صرح قائلاً: “إن تقرب الإسرائيليين من سائر الشعوب السامية والشرقية يعود علينا جميعًا بعظيم الفائدة”.

قمة المشكلة في مسألة تعامل الدولة العثمانية مع اليهود هو التناول الأيديولوجي للأمر؛ إذ دأب المؤرخون المتطرفون على تفسير رعاية الدولة العثمانية لليهود تفسيرًا دينيًا، من باب احترام مبادئ الإسلام وتطبيقًا لمفهوم أهل الذمة.

ودلَّس بعض المؤرخين في وصف موقف الدولة العثمانية من المسألة الفلسطينية، وحاولوا أن يبينوا أن الدولة العثمانية رفضت الاستيطان اليهودي في فلسطين، لهذا تحالفت الصهيونية والماسونية مع الاستعمار لإسقاط الدولة العثمانية من أجل قيام دولة إسرائيل، مع أن حقائق التاريخ تثبت أن الدولة العثمانية كانت مثلها مثل أي دولة تحركها عوامل المصلحة والمنفعة الاقتصادية، وأنها شجعت على هجرة اليهود إذ كان الأمر يعود عليها بالنفع، وعندما استشعرت خطر ذلك أخيرًا، كانت قد وصلت إلى حالة من الضعف إذ لا تستطيع مواجهة الأمر.

  1. أحمد آق كوندز، سعيد أوزتورك، الدولة العثمانية المجهولة (إسطنبول: وقف البحوث العثمانية، 2008).

 

  1. فدوى نصيرات، صحيفة فلسطين ودورها في إبراز خطر الحركة الصهيونية في الفترة المبكرة 1911- 1914، بحث مُجاز للنشر، جامعة فيلادلفيا، عمان (2021).

 

  1. أحمد نوري النعيمي، الدولة العثمانية واليهود (بيروت: دار البشير، 1997).

 

  1. حسان حلاق، موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897-1909 (القاهرة: دار النهضة، 1999).

 

  1. فدوى نصيرات، دور السلطان عبدالحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876-1909 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).

 

  1. نادية حياصات، رعاية الأيتام اليهود في مدينة القدس في العهد العثماني 1902-1909 (عمَّان: مؤتة للبحوث والدراسات، 2017).