كانوا ســدًّا بشــريًّا لحماية العالم الإسلامي
الأكــراد.. الشعب الذي أقلـــق سلاطيــن العثمانيين
بعد كل تلك العقود التي مرت والحقائق التي تكشّفت والوثائق التاريخية التي ظهرت، خلص المؤرخون إلى حقيقة باتت لا تقبل الشك، وهي أن سلاطين الدولة العثمانية امتلأت صدورهم بالفوقية تجاه كافة الأمم العريقة وعلى رأسها العرب، هذه الفوقية لم تظل حبيسة الصدور بل تحولت لسياسات همجية دأب عليها سلاطين الترك تجاه الشعوب التي فرضوا سيطرتهم عليها، وبحسب المؤرخين فإن هذا التصرف من بني عثمان سببه الأساسي شعورهم بالنقص الدائم نتيجة عدم تمتّعهم بأي أصل تاريخي أو حضاري يذكر.
ولم يكن الأكراد استثناءً، فتلك الأمة العريقة جرى عليها ما جرى على كافة الأمم على يد سلاطين الترك، وكما حكم العثمانيون العرب واستعبدوا المسلمين وتسببوا في تخلفهم، حكموا أيضا مناطق الكرد وتسببوا في تخلفهم، لكن في الوقت الذي استطاع فيه العرب تحرير أنفسهم بالنضال، ظل الأكراد ينافحون للحرية من الترك، ويرى مؤرخون أن السبب الرئيس في ذلك يعود إلى تواجد الأكراد داخل تركيا نفسها، ما يعني أن نجاح هؤلاء قد يطيح بالدولة التركية من الوجود وهذا ما جعل الأكراد يتعرضون لمذابح جماعية منذ ظهور سلاطين الترك وحتى الآن.
أدرك سلاطين الترك قوة الأكراد وقرروا مهادنتهم منذ البداية قبل أن ينقلبوا عليهم.
ورغم محاولات الأتراك تصوير الأكراد عرقًا دخيلًا على العرب من ناحية، وعلى الإسلام من ناحية أخرى، تكشف الوثائق التاريخية كذب هذا الادعاء، فأصل القصة من خلال معرفة من هم الأكراد وكيف ظهروا في التاريخ وما دورهم في الإسلام منذ البداية؟
فبحسب المصادر التاريخية فإن القومية الكردية عُرفت منذ قدم التاريخ الإنساني، يدلل على ذلك أن استخدام مصطلح “أكراد” ظهر منذ القرن الثاني قبل الميلاد حتى أصبح وقت الفتح العربي الإسلامي مصطلحًا دارجًا مشهورًا، وقد أُطلق على المناطق التي سكنوها “كردستان” ومعنى كلمة “كرد” بالفارسية الشجعان “وستان” البلاد، أما العرب فقد أطلقوا على مناطق الأكراد “إقليم الجبال” نظرًا لإقامتهم قرب الجبال.
بالنسبة للتوزيع الجغرافي بالتحديد، فتمركز الأكراد في العراق بمناطق العمادية، دهوك، كركوك، السليمانية، وحول الموصل وأربيل، وفي تركيا سكنوا قرب الحدود التركية الإيرانية في المنطقة المحيطة ببحيرة “وان” وديار بكر والجزيرة الفراتية، بالإضافة لبعض المناطق الأخرى في هضاب إيران، وهذا التموضع الجغرافي المهم جعل الكثير من الدول والامبراطوريات تحاول غزو الأكراد الذين دافعوا عن بلادهم على مدار قرون طويلة.
دخول الأكراد للإسلام لم يتأخر كثيرًا، فتوضح الروايات التاريخية أن المناطق الكردية فُتحت في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عام (638م). وفي عصر الدولة الأموية لم يتسبب الأكراد في أي مشكلات في الدولة الإسلامية، حيث تحولوا بعد الفتح الإسلامي إلى مقاتلين في صفوف الدولة الإسلامية، خاصة أكراد الأناضول الذين تحولوا لسدٍ بشري لحماية الدولة الإسلامية بسبب حدودهم القريبة من الدولة البيزنطية.
لكن أول تذمر من الأكراد كان في عصر الدولة العباسية (750-1517)، حين تباينت مواقفهم فأعلنوا التمرد أكثر من مرة، ولعل أشهر الانتفاضات تلك التي قادوها في الموصل في عصر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (174هـ/764م)، وتكررت الانتفاضة في عهد المعتصم (225هـ/839 م)، كما انضم أكراد الموصل إلى ثورة منصور الخارجي سنة (252ه/866م).
ولأن الأكراد تحالفوا كما هو ظاهر مع جميع معارضي الدولة العباسية، لم يكن من الغريب أن يدعموا سلاجقة الأتراك الطامعين في هذا التوقيت لتأسيس دولتهم المستقلة، فالمصالح المشتركة كانت العامل الأساس لأول لقاء بين أكراد الأناضول والجنس التركي المتمثل في دولة السلاجقة، ورغم أن الأمر بدأ بتحالف ومكاسب مشتركة لكن كل شيء اختلف لاحقًا، فبدلاً من السلاجقة حل بنو عثمان وبدلاً من التحالف جاءت القطيعة والحروب والمأساة.
لكن حتى ذلك الوقت وفي عهد الدولة السلجوقية، حقق الأكراد كثيرًا من المكاسب أبرزها الاعتراف بمناطق وجودهم باعتبارها إقليمًا موحدا تحت اسم “كردستان” وقد حدث ذلك في عهد السلطان سنجر السلجوقي (1117-1156م)، وبات هناك والٍ يعيّنهُ السلطان السلجوقي لهذا الإقليم كشأن كافة البلاد الأخرى.
ورغم سقوط سلاجقة الأتراك بعد ذلك، ظل الأكراد محافظين على إقليمهم وتفاعلهم مع الدول الإسلامية، بل منذ تأسيس الدولة الزنكية (1127-1250م)، أصبح الغالب على الأكراد توليهم مناصب قيادة الجيوش الإسلامية، مما دفع مؤرخين إلى وصفهم بـ”وزراء دفاع الدول الإسلامية” وبالطبع بلغ الأكراد ذروة تألقهم على يد صلاح الدين الأيوبي، الكردي الذي أسس الدولة الأيوبية (1174-1250م)، وحرر القدس من الصليبين.
وحين ظهر سلاطين الترك للوجود كان الأكراد معروفين بجذورهم التاريخية والحضارية، ولهم دور مميز منذ ظهور الإسلام، ويمثلون معادلةً مهمة في الإدارة الإسلامية بل وزراء دفاع استطاعوا حمل المسؤولية في أوقات تاريخية عصيبة وأثبتوا كفاءتهم وشجاعتهم، هذا في الوقت الذي كان فيه المسلمون يجهلون بني عثمان ومِن أي قبيلة جاؤوا وأي دين يدينون به.
حاول مؤرخو العثمانيين تشويه التاريخ الكردي والنيل من قيمته وقوته.
تلك هي الصورة الحقيقية التي حاول سلاطين الأتراك محوها بروايات كاذبة لتصوير العرق الكردي دخيلاً على العرب والإسلام، لكن المصادر التاريخية تؤكد أيضًا أن بذاتهم الأكراد أقلقوا سلاطين الترك.
ولعل أبرز أسباب قلق بني عثمان من الأكراد، موقعهم في إقليم جغرافي مميز داخل تركيا، وقربهم من الحدود البيزنطية، بالإضافة إلى مكانتهم الإسلامية وقدرتهم على القتال، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن سيطرة الدولة الصفوية (1501-1736) على بعض مناطق الأكراد، دفع سلاطين العثمانيين الأوائل إلى مهادنة الأكراد خشية استفزازهم، قبل أن يأتي سليم الأول (1512-1520)، ليفكر لأول مرة في عقد صفقات معهم للتخلص من الصفويين وكان ذلك أول الأفخاخ التي وقع فيها الأكراد ودفعوا الثمن غاليًا.
- باسيلي نيكيتين، الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة: نوري طالباني، ط2 (بيروت: دار الساقي، 2001).
- توماس بوا، تاريخ الأكراد، ترجمة: محمد تيسير ميرخان (بيروت: دار الفكر المعاصر، 2002).
- عباس العزاوي، عشائر العراق: ج2 (بغداد: مطبعة المعارف، 1947).
- كاميران عبد الصمد الدوسكي، كردستان في العهد العثماني (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2006).
- محسن محمد المتولي، كرد العراق (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2001).
- محمد شفيق غربال، الموسوعة العربية الميسرة، ج2 (القاهرة: دار الجيل، 1996).
- محب الله، موقع الأكراد وكردستان تاريخيا وجغرافيا وحضاريا ( د. ن: د. م، 1991).