بالتصوٌّف السياسي

ساد "الظلام" العثماني

قرونًا من التاريخ

لا يمكن لمتتبِّع الحياة الفكرية في الأناضول – قبل وخلال وبعد الدولة العثمانية – أن يطرح الدين أو الفكر دون ربطهما بعقيدة التصوف، لذلك مهما تحسِّس الكثيرون من صوفية الدولة العثمانية وسلاطينها؛ فإن هذا الأمر يبقى حقيقةً ماثلة ومؤكدِّة تاريخيًا. وهذا إذا ما ناقشنا التصوٌّف في إطاره السٌّني الذي لا يسلم من شطَط وشذوذ فكري لدى كثير من المنتمين إليه، فلا مناص من التأكيد على أنه يتنافى بشكلٍ واضح مع الإسلام السُّني.
العثمانيون منذ عهد عثمان المؤسس؛ وجدوا أنفسهم في أحضان المتصوِّفة، ذلك أن ثقافة التكيِّة هي التي أنشأت عُثمان في كنفِ شيخه ووالد زوجته إده بالي الكرماني (644-726ه / 1246-1326م)، الذي كان من اتباع الطريقة الوفائية، وكان في الوقت نفسه يترأس تنظيم الأخوة في الأناضول، ويطلق عليها الآخيِّة، والتي بدورها تأسست بناءً على توصيات الحاجي بكتاش.
ومنذ عثمان حتى نهاية الدولة؛ ارتبط السلاطين بالصوفيِّة وطُرقها، وتلقوا دعمها اللوجستي، وفي المقابل كانت الطٌّرُق تتلقى اعترافات رسميِّة ودعمًا ومساعدات على انتشارها، ومرِّت ارتباطات السلاطين بالصوفيِّة باختلاف طُرقها، في كل مرحلة، ومع كل سلطان كانت تنشط إحدى الطرق وتخفت أخرى، وهكذا. لذلك كان يوشك وقوف الدولة العثمانية أحيانًا في وجه بعض الطٌّرُق أن يرتد عليها سلبًا ويتسبب في سقوطها، كما الثورة في عهد بايزيد يلدرم سنة 819 ه/ 1416 م، وعهد سليم بعد ثورة المهدويِّة سنة 925 ه/ 1519 م، وفي عهد القانوني سنة 933 ه/ 1527 م، وقد تبعت هذه الثورات وسبقتها سلسلة من الثورات الصوفيِّة على مدى تاريخ الدولة العثمانية.
ولكي نفهم سبب هذه الثورات رغم دعم السلاطين وارتباطهم بها؛ يجب أن نعي أن الصوفية طُرُق مختلفة ومتناقضة ومتنافرة أحيانًا، لكنها في الوقت نفسه تؤمن – حتى في أفضل حالاتها – بأفكار ورؤى تتنافى مع الصفاء الديني للإسلام، وذلك من خلال فلسفاتها المختلفة.
شكِّل تنافس الطٌّرُق الصوفيِّة تقربًا للسلطة وقودًا لثوراتها، فالطريقة التي تنجح في نيل حظوة السلطان والبلاط العُثماني؛ ترى في قوتها المكتسبة من هذه القربى مدعاة ومسوغًا لمحاربة مُنافسيها، وبالتالي يمكن اعتبار الثورات في أساسها حلقة من حلقات الصراع الفكري بين المتصوِّفة، وتنجذب الدولة وتتفاعل مع أقربها إليها خلال فترة ثورتها، وبذلك تصبح تلقائيٍّا عدوة للطٌّرُق المُنافسة لها.

لكل سلطان هواه الروحي الشاذ

ولكي نفهم سبب هذه الثورات رغم دعم السلاطين وارتباطهم بها؛ يجب أن نعي أن الصوفية طُرُق مختلفة ومتناقضة ومتنافرة أحيانًا، لكنها في الوقت نفسه تؤمن – حتى في أفضل حالاتها – بأفكار ورؤى تتنافى مع الصفاء الديني للإسلام، وذلك من خلال فلسفاتها المختلفة.
شكِّل تنافس الطٌّرُق الصوفيِّة تقربًا للسلطة وقودًا لثوراتها، فالطريقة التي تنجح في نيل حظوة السلطان والبلاط العُثماني؛ ترى في قوتها المكتسبة من هذه القربى مدعاة ومسوغًا لمحاربة مُنافسيها، وبالتالي يمكن اعتبار الثورات في أساسها حلقة من حلقات الصراع الفكري بين المتصوفة، وتنجذب الدولة وتتفاعل مع أقربها إليها خلال فترة ثورتها، وبذلك تصبح تلقائيٍّا عدوة للطٌّرُق المُنافسة لها.
لذلك لا نتعجب حين نجد انتقائية بين السلاطين في قربهم من طُرُق صوفيِّة مختلفة وأحيانًا متناقضة ومتصارعة. فمثلاً مراد الأول وأحيانًا متناقضة ومتصارعة. فمثلاً مراد الأول ( 762 – 791 ه/ 1361 -1389 م) كان مرتبطًا ومتأثرًا بجلال الدين الرومي، لذا عُرف أنه أمر بخياطة قبعة له من ثياب يُقال أنها تعود للرومي، وخاطها بخيوط ذهبية وصنع منها تاجًا، أما بايزيد الأول ( 791- 804 ه/ 1389 -1402 م) فقد ارتبط بالطريقة الزينية التي نشطت في عهده، ومراد الثاني ( 824- 855 ه/ 1421 -1451 م) الذي تزامن عهده مع انتشار المولويِّة والبيرميِّة وإعفاؤه دراويشها من الضريبة دعمًا لها للانتشار، والقانوني سليمان ( 926 – 973 ه / 1520-1566م) انتسب للمولويِّة صراحةً، واستمد أيضًا عزوةً له من النقشبنديِّة وذكرًا من الخلوتيِّة، وبذلك نجد أنه كان على ارتباط واسع بأكثر من طريقة، بينما يُقال إن مصطفى الأول (1026-1032ه / 1617-1623م) لحق الدروشة على الطريقة الخلوتيِّة، ولُقِّب بالوليّ، وعثمان الثاني (1167-1170ه / 1754-1757م) الذي دفعته شدِّة ارتباطه بالمتصوِّفة كارهي الموسيقى إلى طرد الموسيقيين رغم ارتباط سابقيه السلاطين بهم، أما مصطفى الثالث (1170-1188ه / 1757-1774م) فقد كان منتسبًا للطريقة الجرِّاحيِّة، وانتسب إليها أيضًا محمود الثاني وظل يتردد على مجالس المولويِّة، كما انتسب محمد رشاد الخامس (1327-1336ه / 1909-1918م) للمولويِّة، وشارك في حفل افتتاح إحدى تكاياها في عهده.
وانتساب السلاطين لطريقة لا يعني عدم ارتباطهم بغيرها، لأن الطٌّرُق كانت جزءًا مهمًا من سلطة الدولة العثمانية، وداعمًا شعبيًا قويًا لها بين رعاياها، خاصةً في الأناضول ومسلمي المناطق العثمانية في أوروبا.
كانت المنفعة مُتبادلة بين السلاطين وشيوخ الطٌّرُق الصوفيِّة ومُريديها، ففي مقابل الدعم الذي يتلقاه السلاطين من شيوخ الطّرُق؛ كان الشيوخ يتمتعون بمكانة اجتماعية عالية، ونفوذ سياسي قويٍّ في البلاط، وكلما ازداد هذا النفوذ، كثُر الأتباع والمُريدون من شرائح مجتمعية عدِّة، وبذلك فإن حلقة المنافع ترتبط ببعضها بين السلاطين والشيوخ وأفراد المُجتمع من جهة، والدِّعم والمكانة الاجتماعية من جهة أخرى، وهذا ما جعل التِّصوٌّف حاضرًا بقوِّة في التاريخ العُثماني

جلال الدين الرومي

672-604 ه/ 1207-1273 م

محمد بن محمد بن حسين البلخي، يُطلق عليه اسم جلال الدين الرومي، وتُنسب إليه الطريقة المولويِّة، عرف بالشعر وتأليف كثير من المؤلفات أشهرها المثنوي، وكانت له آراء داعمة في الوجوديِّة، يسميها البعض تحليقات الرومي في الوجوديِّة.

المرجع:
مصطفى غالب، جلال الدين الرومي (بيروت: مؤسسة عزالدين، 1982).

الزينيِّة

إحدى الطٌّرُق الصوفية المؤثرة في فترة من الفترات الوسيطة في التاريخ العثماني في الأناضول، أسسها زين الدين الخوافي (توفي: 838 ه/ 1435 م) من مواليد خُراسان، له مجموعة من المؤلفات، أبرزها: رسالة الوصايا القدسية، الأوراد الزينية، منهج الرشاد.

المرجع:
روني إيلي ألفا، موسوعة أعلام الفلاسفة (بيروت: دار الكتب العلميِّة، 1991).

البيرميِّة

من الطٌّرُق الصوفيِّة التي ظهرت في الأناضول في فترة الاضطراب العام سنة 804 ه/ 1402 م وغزو تيمورلنك وإسقاط العثمانيين فترةً من الزمن، أسسها الحاج بيرم (توفي: 833 ه/ 1430 م) قرب أنقرة، وخلال دعوته لطريقته شكت الدولة في أمره، لذا طُلب للمثول أمام مراد الثاني، الذي عفا عنه بعد أن اطمأن لدعوته وطريقته، كما أعفى بعض تلاميذ بيرم من الضرائب، مساعدةً منه بتوسع الطريقة، وقد انقسم أتباعه إلى قسمين: الأول حافظ على الإسلام السٌّني بتصوِّف ومن شيوخ هذا القسم آق شمس الدين أستاذ محمد الفاتح وأقرب الشيوخ لديه، والثاني تطرِّف في آرائه الأقرب إلى التشيٌّع ووحدة الوجود.

المرجع:
خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002).

النقشبندية

خرجت من آسيا الوسطى وانتقلت إلى الأناضول أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وتنتسب لمحمد بهاء الدين نقشبند، وقد دخلت الأناضول على فترتين الأولى عن طريق أحد شيوخ بخارى ثم على الطريقة الهندية المتشدِّدة، وهي من أقرب الطٌّرُق الصوفيِّة لمتعقدات أهل السٌّنِّة والجماعة، فأتباعها من أكثر المتصوِّفة حفاظًا على الواجبات الدينية من صلاة وصوم بخلاف بعض الطٌّرُق الصوفيِّة الأخرى.

المرجع:
برنارد لويس، استنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان، ط 2 (الرياض: الدار السعودية للنشر، 1982).

الخلوتيِّة

أسسها آخي يوسف الخلوتي في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وكانت من الطٌّرُق المُحافظة على المظاهر السٌّنيِّة كبعض الطُّرُق الأُخرى.

المرجع:
محمد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد (القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967).

الخلوتيِّة

وتُسمى الهلفيتية، يُقال أنها تفرِّعت من الخلوتية، أسسها نور الدين الجراحي ( 1089- 1133ه / 1678 - 1721 م) في الأناضول، وهي إحدى أكثر الطٌّرُق الصوفيِّة المُنتشرة في الغرب.

المرجع:
عزيز إدريسي، التصوٌّف في الولايات المتحدة الأمريكية (بيروت: دار الكتب العلميِّة، 2013).

وبناءً على شِّواهد دعم السلاطين؛ فإن من الصعب مناقشة التاريخ العثماني بمعزلٍ عن المعتقد الصوفي في جوانبه الفكرية، فالتِّصوُّف شكِّل بابًا كبيرًا لكثير من المعتقدات الوثنيِّة والباطنية التي اعتنقها التُّرك، ولقي دعمًا غير مباشر من السلاطين، سواءً بعلمهم وإدراكهم أو بسبب جهلهم وعدم استيعابهم للأفكار الشاذِّة التي كانت تَفِد ويُؤسِّس لها بين الأتراك بمباركة الدولة.
قد يرى البعض أن الفكر الصوفي والباطني في الدولة العثمانية تهويل مشوب ببعض التزييف للتاريخ، ويذهب إلى أن الأمور نسبيِّة قد لا ترقى أحيانًا إلى ما تصنِّفه بعض المصادر والمراجع أفكارًا وطقوسًا وخزعبلات في الإسلام الشعبي التٌّركي. لكن في كلتا الحالتين؛ سنجد أن الدولة العثمانية – من حيث تدري أو لا تدري – عانت من اعتلال فكري خطير، لأن التناقض بين مراحلها وفتراتها إزاء أفكار تُدعَم ثم تُحارب، وطُرُق تنشط ثم تأتي أخرى بديلة عنها، ويُتداول للفكر الصوفي بمختلف أشكاله؛ والكلُّ يؤكد ويسلِّط الضوء على ما ساد حينها من اعتلال وتَخبٌّط.

دلسوا على رموز إسلامية تبريرًا لانحرافاتهم

أن تشغل البكتاشيِّة مساحة واسعة في تاريخ الدولة العثمانية، ويتِّسم وضعها بالقوة فترةً طويلة، وتتمكن من تمرير أفكار تتجنى وتقدح في رموز إسلاميِّة كأبي بكر الصدِيق -رضي الله عنه- بقصد تمرير الأثر الباطني بحسبانه أوِّل انطلاقة لها؛ فإن هذا أمر يُبرهن على هذا الاعتلال والتخبط، ويجعل ميزان الدولة بلا مقياس في الجوانب الفكريِّة، على اعتبار عدم الوضوح، وهذا ما يجعلنا نتعجِّب أحيانًا من بعض التِّصرٌّفات التي يقوم بها السلاطين ورجالات البلاط، لأنهم يلجأون أحيانًا إلى شيوخ الطٌّرُق وتقريبهم، ويتولى مشيخة الإسلام بعض المتصوِّفة الذين يزعمون أحيانًا القدرة على التشريع هبة خُصوا بها في رؤية منامية أو حقيقية.
وخلاصة القول: فإن الفكر الصوفي بشكله الذي درسناه في الدولة العثمانية يؤيد ذلك بناءً على أوهامه وجرأته على التأويل في الظاهر والباطن، ناهيك عن الفلسفات الشِّاذِّة التي يؤمن بها الكثير من تلك الطٌّرُق.

1) أحمد شيمشيرغل، تاريخ بني عثمان، ترجمة: مهتاب محمد (أبوظبي: ثقافة للنشر والتوزيع، 2016). 

2) برنارد لويس، استنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان، ط 2 (الرياض: الدار السعودية للنشر، 1982).

3) حنان المعبدي، التصوف وآثاره في تركيا إبان العصر العثماني – عرض ونقد (رسالة دكتوراة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1429 ه).

4) مصطفى أرمغان، التاريخ السِّري للإمبراطورية العثمانية، ترجمة: مصطفى حمزة (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014).