بمغالطات تاريخية وأحقاد عنصرية

ترجم الفردوسي في "الشاهنامة" شعوبية الفرس ضد العرب

احتل الشعر أهمية كبرى لدى الفرس، وعلى وجه الخصوص بعد دخولهم الإسلام، فبعض الباحثين من الفرس يرون أن الشعر لم يتطور ويأخذ مكانته العالية في مجتمعهم إلا بعد الإسلام، فأشعارهم كانت لا تتعدّى الشعر الشعبي المعروف بـ”الفهلويات”، وهو يُعَدُّ شعرًا ركيكًا باللغة الفهلوية أو الفارسية القديمة. وبعد فتح بلاد فارس تأثر الفرس بالإسلام والثقافة والأدب العربي، والواقع أن الإسلام والعروبة مفهومان مترادفان متلازمان، فاعتنق الفرس الإسلام ظاهريًّا على مضض، وكان شغلهم الشاغل زرع الفتن ونشر الأراجيف وحيك الدسائس، حتى أدخلوا على الإسلام الأباطيل والبدع والضلالات.

يقول المؤرخ العراقي عبدالعزيز الدوري: “اندفع الفرس بشكل واسع وبقوة في العصر العباسي بدافع عنصري، وتمثل حركتهم جانبًا من محاولة شعوب غير عربية لضرب السلطان العربي، الذي انكشف في الصراع السياسي والثقافي والديني الذي قامت به العناصر الفارسية المتطرفة في عدائها للعرب والإسلام، فعملوا على التشكيك في الإسلام والتقليل من شأن العرب والحط من ثقافتهم”، وهذا النهج الفارسي استمر حتى وقتنا الحاضر.

بعد أن سيطرت الثقافة العربية وآدابها على الفكر الفارسي لمدة تزيد عن القرنين؛ انطلقت أولى الكتابات الشعوبية لتؤجج العداء الفارسي ضد العرب، عندما كلَّف السلطان محمود الغزنوي الشاعر الفارسي أبا منصور الدقيقي الطوسي بكتابة قصائد شعرية يمجد فيها تاريخ فارس وحضارتها، ويشتم العرب وحضارتهم، وبدأ بكتابة ملحمته الشاهنامة، لكنه قتل قبل أن يستكمل عمله الملحمي، فأكمل عمله أبو القاسم الفردوسي (توفي: 1020م)، وهو أحد أقدم الشعراء الذين كتبوا باللغة الفارسية، واستمر في العمل لمدة ثلاثة وثلاثين عاماً متوالية، وذلك في محاولة لمنافسة اللغة العربية، التي كانت تهيمن بثقلها الحضاري والأدبي على المنطقة. ورغم مفاخرة الفرس إلى اليوم بهذه الملحمة الوطنية لبلاد فارس فإنهم يغفلون ما تحويه من تعصب ومهاجمة العرب بأشكال عنصرية، وهو ما وقعت في فخه الملحمة على الرغم من أهميتها الأدبية. والحقيقة أن الكتاب يشكل ثقلاً كبيراً بالنسبة للقوميين الفرس. فالمنهج الذي سار عليه الفردوسي وغيره من الكتاب الفرس، اعتمدوا فيه على إرسال الرسائل الضمنية المباشرة المسيئة للعرب، وإظهارهم بصورة نمطية فَجَّة من خلال القصص المكذوبة والأساطير والخرافات والروايات المزورة والملاحم الشعرية المكذوبة.

كانت الشعوبية منهجًا فارسيًّا كرَّسته دويلاتهم التي قامت تحت ظلِّ العباسيين، وأبرز داعميها الغزنويَّة.

والحقيقة يمكن القول أن أول ما سنحت الفرصة لظهور الفارسية كلغة أدب، كان في عهد الدولة السامانية (819 – 999م)، التي اشتهرت بالعمل على إحياء القومية الفارسية من جديد ثم جاءت الدولة الغزنوية، فازداد الميل إلى هذه النزعة بشكل واضح، ونظم الفردوسي ملحمته الشهيرة “الشاهنامة” التي بلغت حوالي ستين ألف بيت من الشعر، كاشفًا فيها عن أمجاد الشعوب الإيرانية وقد زينها بقصص وسير لأبطال وشخصيات ملحمية ارتبطت بتاريخ الفرس، مما جعلها حديث الناس في مسامراتهم وأغانيهم.

ولو ألقينا نظرة فاحصة على تلك الملحمة التي ما زال يتباهى ويتفاخر بها الإيرانيون أمام العالم؛ لوجدنا أن مضمونها الأسطوري المتناقض مع ما يدعونه من عقيدة إسلامية. فقد تأثر الفردوسي في كتابته “الشاهنامة” -بشكل واضح- بـ”الأفستا”، وهو أول كتاب يضم أجزاء من أساطير الفرس القديمة، يتجاوز عمره الثلاثة آلاف عام، ويُعدُّ أقدم وثيقة تاريخية مكتوبة تعكس المراسم والأفكار والطقوس الدينية للمجتمع الإيراني القديم، وصوَّر الملوك بحالة من القدسية رفعتهم إلى مرتبة الآلهة كأحد أشكال التأثر بالأساطير الهندية واليونانية، ووُصف هذا العمل بأنه “الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية”.

ومن أمثلة ذلك النفس الشعوبي والعنصري للفردوسي الذي يرشح أحقادًا عنصرية ونزعات شعوبية كقوله في كتابه: “انشق ملوك الفرس أجمعون عن طاعة ملكهم الأكبر واستبدوا في الرأي والملك، واجتمعوا إلى الضحاك ابن ملك العرب ليخلصهم من جمشيد، فما كان منه إلا أن نصب نفسه ملكًا عليهم، وقصد جمشيد الذي هرب إلى أرض الهند.. فقصده الضحاك ثانية وقضى عليه، وأمر بقتله بالمنشار..”، من خلال ذلك المقطع أظهر الفردوسي العربي هنا بأنه غادر متوحش في تعامله مع أعدائه، وهنا لا يسعنا إلا أن نتذكر “سابور ذا الكتاف” الملك الساساني الذي تلذذ بخلع أكتاف العرب، فالفردوسي يتحقق فيه قول المثل العربي “رمتني بدائها وانسلَّت”. وقوله في مقطع آخر في حق العرب “من شرب لبن الإبل وأكل الضب.. بلغ الأمر بالعرب مبلغًا أن يطمحوا في تاج الملك”، وفي ذلك نزعة استعلائية تنتقص من شأن العرب وتعلي من مقام الفرس كسادة تاريخ.  وبقيت هذه الملحمة الفارسية على الرغم مما يعتريها من مغالطات تاريخية وأحقاد عنصرية، موجهة ضد العرب راسخة لدى الفرس يفاخرون بها بين الأمم. بل زاد التفاخر بها في العصر الحديث والاعتزاز، مغلبة في ذلك النزعة القومية والعنصرية ضد العرب.

  1. أحمد الدينوري، الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر (القاهرة : دار إحياء الكتب العربي، 1960).
  2. أبوالقاسم الفردوسي، ملحمة الفرس الكبرى، ترجمة: سمير مالطي، ط2 (بيروت: دار العلم للملايين، 1979).
  3. توفيق اليوزبكي، “العرب في مواجهة محاولات الفرس التخريبية في العصر العباسي”، بغداد: مجلة الرافدين، ع. 22 (1989).
  4. حكيم مرزوقي، ” الشاهنامة أول قصيدة في التاريخ لم تتحرر من عقدة الشعر العربي”، لندن: العرب، السنة 44، ع. 12254 (2021).
  5. عبد العزيز الدوري، الجذور التاريخية للشعوبية (بيروت: دار الطليعة ، 1962).