ضرب العرب بالعرب

ثبات الاستراتيجية الفارسية من التاريخ القديم إلى المعاصر

المتتبع لتاريخ الشرق الأوسط تُلْفِتُ انتباهه السياسةُ الإيرانية عبر العصور التاريخية، التي تصر دومًا على التوسع غربًا في منطقة شرق البحر المتوسط والخليج العربي. وتتعزز هذه السياسة التوسعية من خلال أيديولوجية عنصرية، وهي سيادة العنصر الآري على المنطقة، وكراهية العنصر السامي، الذي يمثل أكثريته العرب.

وفي دراسة بعنوان “النزوع التاريخي لإيران للوصول إلى شرق المتوسط”؛ يستعرض الباحث اللبناني جمال واكيم الأسس الثابتة لهذه السياسة من التاريخ القديم وصولاً إلى الفترة المعاصرة، إذ يوضح بدايات هذه السياسة قائلاً: “مع حلول منتصف القرن السادس قبل الميلاد كان قورش الكبير قد فرض هيمنته على مجمل الهضبة الإيرانية، ما سمح لخلفه قمبيز أن ينطلق ليفرض سيطرته على بلاد ما بين النهرين ثم الأناضول فَبَرِّ الشام ومصر”. لذلك يلجأ حكام الفرس إلى سياسة الاحتلال المباشر، وأحيانًا أخرى إلى سياسة فرض النفوذ الاسمي على المناطق العربية، لا سيما المناطق الداخلية في جزيرة العرب، حيث لا خبرة حقيقية للجيش الفارسي بحروب الصحراء.

وفي عهد الملك الساساني أردشير بن بابك (226- 241) لجأ الفرس إلى استراتيجية مواجهة القبائل العربية من أجل تأمين حدودهم؛ وتبنى الفرس إقامة “الإمارة الحاجزة” ومضمونها أن أفضل وسيلة لتأمين الحدود الفارسية من العرب هي العرب أنفسهم، وعلى ذلك كانت إمارة الحيرة العربية بمنزلة إمارة الحماية للفرس من هجمات القبائل العربية، ومحاولة إخضاع القبائل لصالح النفوذ الفارسي، ومن ناحية أخرى كانت إمارة الحيرة حائطَ صدٍّ لفارس في مواجهة الروم. والحيرة التي تقع جنوب العراق، حققت الاستراتيجية التي سعى إليها أكاسرة الفرس، على أن تبقى دائما تحت نفوذهم وسيطرتهم.

أما العراقي خالد الدوري فيرى أن إمارة الحيرة بدأت التمرد على الواقع الذي خططه الفرس لهم ورسمته سياستهم، ذلك في زمن النعمان بن المنذر؛ إذ تنبه النعمان إلى سياسة لم شمل القبائل العربية وإقامة تحالف عربي قوي، من أجل مواجهة التدخل المباشر للفرس في شؤون مملكة الحيرة. وهكذا تحول النعمان إلى أحد الرموز العربية المهمة المناوئة للفرس، والساعية إلى لم شمل القبائل العربية، ومن ثم كان لا بُد من الصدام بين العرب والفرس. ويؤكد ذلك التفاف شعراء العرب حول النعمان بن المنذر، حتى قال النابغة الذبياني في مكانة النعمان:

وهذا ما يؤكد السياسة الفارسية الثابتة تجاه العرب حتى يومنا الحالي، وهي سياسة “فَرِّق تَسُد” أي اضرب العرب بالعرب تكن لك السيادة عليهم. ويسوق الدوري ما قاله كسرى عندما عرض تاج مملكة الحيرة على أحد العرب؛ إذ قال له: “هل تستطيع أن تكفيني العرب؟”.

واستمرت سياسة فرق تَسُد، وضرب العرب ببعضهم، وصارت أساسًا للسياسة الإيرانية، وهو نفسه ما نهجته إيران الخمينية بعد ما ادَّعوه من الثورة الإسلامية سنة (1979). لكن مع الثورة الخمينية هذه لجأت إيران إلى الغطاء الديني لإخفاء النزعة الفارسية التاريخية للسيطرة على العرب؛ إذ أعلن الخميني سياسة “تصدير الثورة الإسلامية” إلى العالم العربي مؤكدًا أنه “لا حدود بين المؤمنين بالإسلام”. ويدلل الباحث الأردني “عليّ محافظة” على ذلك قائلاً: “كان هدف نظام الحكم الإيراني الجديد في عهد الثورة الإسلامية، تصدير ثورته، والاعتراف به باعتباره قوةً مهيمنة في المنطقة”.

تُعد الثورة الخمينية في إيران تطبيقًا عمليًّا لما كان ينتهجه الفرس ضد العرب منذ التاريخ القديم.

وفي إشارةٍ إلى الباحث جمال واكيم أكد فيها أن هذه السياسة بدأت مبكرًا جدًّا في أعقاب نجاح الثورة في إيران؛ ففي عام (1980): “أرسى الخميني والرئيس السوري حافظ الأسد أُسس علاقة متينة بين البلدين. لقد كانت سوريا مهمة جدًا بالنسبة لإيران، لأنها كانت بوابة إيران إلى شرق المتوسط”. وأدى تحالف إيران وسوريا إلى دخول إيران إلى لبنان، هذا التدخل الذي بدأ منذ وجود القوات السورية على الأراضي اللبنانية بعد الحرب الأهلية، لتبدأ إيران في تقديم المساعدات المالية لأتباع المذهب الشيعي في لبنان، هذه المساعدات التي قُدِرَت بحوالي مئة مليون دولار سنويًا. ووصل الأمر إلى ذروته بتأسيس إيران لما عُرِف بحزب الله؛ الذي ارتبط مذهبيًّا بمرشد الثورة الإيرانية، وأصبح الأمين العام للحزب وكيلاً شرعيًّا للوليّ الفقيه مرشد الجمهورية الإيرانية الإسلامية في طهران. وهكذا أصبح حزب الله دولة داخل الدولة اللبنانية، فأعادت إيران سياستها الفارسية القديمة منذ إنشائها لإمارة الحيرة، وهي سياسة فرق تسد، وضرب العرب بالعرب.

  1. جمال واكيم، أوراسيا والغرب: الهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: دار أبعاد، 2016).

 

  1. حسين مجيب المصري، صلات بين العرب والفرس والترك (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).

 

  1. خالد الدوري، المقاومة العربية للنفوذ الساساني في الحيرة من 226م إلى نهاية موقعة ذي قار، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة تكريت، العراق (2003).

 

  1. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. علي محافظة، إيران بين القومية الفارسية والثورة الإسلامية (عمَّان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013).

 

  1. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).