عندما تتعاكس المصالح
بوصول الإمام فيصل بن تركي إلى الرياض، وإقبال الأهالي ومبايعته على السمع والطاعة، بدأت الأعمال تتسارع للإصلاح ومنها إرساله إلى جميع بلدان نجد نصيحة قيّمة مطولة قُرئت في عموم المساجد، حث فيها الرعية على فعل الخيرات وترك ما يغضب الله عز وجل، وقد كان لها أثر عميق في نفوسهم.
وإن دلّ ذلك على أمر فإنه يدل على مدى تردّي الأوضاع وتأثرها من الأحداث والحملات الحربية الموجّهة بإيعاز من الدولة العليا، التي عملت على شتات الكل والتفرقة، وما إن عاد الإمام للمرة الثانية حتى عاد الاستقرار.
في مقابل ذلك وفي سنة 1256هـ/1840م، ظهر توتر شديد على ملامح العلاقات بين الدولة العثمانية وواليها على مصر محمد علي باشا، وعلى إثر ذلك تم توقيع معاهدة بلوندرة بين إنجلترا وروسيا وبروسيا والنمسا من جهة، وتركيا من جهة أخرى، ومقتضاها التحالف ضد الباشا وإرجاعه إلى حدود مصر لتوسعه ضد ممتلكات الدولة العثمانية.
كما اتُّخذ قرار بتجهيز قوة لردع محمد علي، إن لم يخضع لبنود الاتفاقية، وأُبلغ القناصل بما حوته المعاهدة، كما عُرض على محمد علي ولاية مصر له ولورثته وولاية عكا لمدة حياته، وأمهلوه عشرة أيام، ولكن شخصية الباشا الوحشية الحربية، أوصلته إلى أن يقف في وجه الدولة التركية التي قررت التخلص منه وكسب ود الدول العظمى من حولها.
من جهة أخرى كانت إجابة الباشا بالنفي لتلك الاتفاقية، التي لم يلتفت إلى مدى خطورتها على طموحه، الذي أباد شعوباً ودولاً من أجل تحقيقه والوصول إليه، وقرر المدافعة حتى الممات، وحينها أخبره القناصل بأنه لا حق له في ولاية عكا، وهنا لفتة مهمة كيف أن الدولة العثمانية باعت كل ما يمكن بيعه من أجل المحافظة على كيان خاص بها.
ولم تقف الدولة العثمانية في حربها ضد الباشا، وإن لم تكن حرباً عسكرية، ولكنها حرب استغلال الدين والفتاوى من شيخ الاسلام في الآستانة، وقبل انتهاء مهلة أخرى، استُصدرت فتوى محتواها إسقاط حُكم محمد علي باشا في بلاد الشام، وقُرئت تلك الفتوى في جميع مساجد إستانبول، بينما رد محمد علي على القناصل، ردًّا يدل على المزاجية التي لا مثيل لها، إذ أعلن أن أمر مصر هو أمر مُقرر من المهلة الأولى، وقد أرسل إلى دولته وهو ربيبها عما يخص بلاد الشام، التي يعدها أمرًا ثانويًّا، وأنه يتأسف على إساءة معاملة الدول، ويطلب منهم الإنصاف. محمد علي باشا يطلب الانصاف!!
وكانت مفاجأة محمد علي الكبيرة حين توجهت إليه قوات عسكرية، بقيادة الأميرال استيفورد، ولحقت بهم تجريدة عثمانية آتية من قبرص وأطلقت قنابلها على بيروت، وبعد ذلك طُلب من سليمان باشا التسليم، وأخبرهم بأنهم لن يتركوها إلا خرابًا، وكانت أحداثًا مدمرة لم يتأثر بها إلا الشعوب، وبعد كل ذلك صدر فرمان عثماني ضد محمد علي بأن يلتزم بما جاء فيه، وستتكرم عليه الحضرة السلطانية بقبول استرحامه، بشرط أن يحل الجيش المصري، ولا يُبقى منه إلا أعدادًا محدودة.
وقد جاء في استرحامه أن تكون مصر في وراثة الأكبر من عائلته، والشرط الأهم أن يحدد مبلغٌ ثابتٌ سنويًّا يدفعه للسلطان، وأن يكون له الحق في ترقية ضباط جيشه.
وذلك الجزاء لمحمد علي ليس إلا تقليلاً من حجمه ومن قوته بكونه حاكمًا عسكريًّا، رغم كل ما قدمه من تفاني لخدمة مصالح الدولة بمرتزقة انقلبوا عليه، وتجاهلت الدولة دوره، ولم يكن ذلك إلا نهاية الدولة أيضًا.