بالدُّفِ والرقص

"دُغماتية" العُثمانيين:

من لا شيخ له فشيخه "الشيطان"!

ترعرعت الفرق الصوفية في الأناضول تحت كنف السلطنة العثمانية، التي تفانى سلاطينها في الدعم والتودد إلى مشايخ الطرق الباطنية المُنحرفة، عندما استخدموا الصوفية الباطنية في مشروعاتهم السياسية، ومن أمثلة ذلك ما كشفت عنه الوثائق التاريخية من اتصالات بين عبد الحميد الثاني وتجمعات الطرق الصوفية وشيوخها في تركستان، وجنوب أفريقيا، وفي الصين، ونجح في جمع هذه الطرق، متغاضيًا عن انحرافاتها العقدية، لتحقيق هدفه السياسي.

تعددت وتنوعت وانتشرت الطُّرُق الصوفية على امتداد التاريخ العثماني، وبات أثرها واضحًا جليٍّا بشكلٍ رسمي تحت رعاية السلاطين الذين حرصوا على التناغم معه. وبناءً على ذلك، وبحسب المنطق الذي يُجوِّز للتركي (خليل إينالجيك) وصف الطرق الصوفية في الأناضول بالطُّرُق الدينية، وتقسيمها إلى قسمين: الطِّرُق المعروفة بتكاياها، كالنقشبندية والمولوية والخلوتية، وهي مدعومة من أوقاف المؤسسات السلطانية التي تعود إلى كبار رجال الدولة العثمانية، والأخرى المتمثلة في الطُرق الباطنية التي تعمد إلى السريِّة في عباداتها وطقوسها.

"الصوفية" كانت طوع لإرادة الســـلطانية... والســـلاطين دعمـــوا باطنيتها

والمُتَتَبِّع لنشأة الطُّرُق الصوفية وتاريخ في الأناضول؛ سيجد تداخلاً بينها، في طقوسها وأذكارها وارتباطاتها، بل سيجد حتى شيوخها يتمتعون بهالة من التقديس في أكثر من طريقة، حتى الطرق الشيعية وجدت أنصارًا من الصوفية لنشر دعوتها في تركيا؛ لذا لا غرابة في أن نجد الشيخ صفي الدين الأردبيلي- الجد الأكبر للشاه إسماعيل الصفوي، مؤسس الدولة الصفوية في إيران – يلتف حوله عدد كبير من الأتباع المريدين نتيجة للدعوة القوية أو الدعاية المؤثرة التي قام بها هو وأتباعه من المتصوفة والدراويش الذين استطاعوا نشر دعوتهم في بعض أقاليم السلطنة العثمانية.
فالطُّرُق الصوفية -باختلافها، الظاهر منها والباطن- أسهمت في بسط نفوذ العثمانيين خلال القرن الرابع عشر الميلادي، خاصةً في الأناضول، لذلك من الطَبَعِيِّ القول: إن أي تركي في الأناضول خلال تلك الحقبة كان له نوع من الارتباط بالصوفية وتفرُّعاتها؛ فانتشرت مقولة: من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لذلك يحظى مؤسسو الطُّرُق بمكانة رفيعة ومهابة وإجلالٍ بالغ بين التُّرك، ويعتبرونهم أولياء لله بما لهم من قدرة على تنمية العاطفة الدينية لدى أتباعهم، وبما يزعمونه من تقرُّب إلى الله بالتأمّلِ والرؤى، وبأنشطةٍ وأذكارٍ بعضها يعتمد الرقص على إيقاع الطبل والدفوف، لذلك كانت إسطنبول وحدها في أواخر الدولة العثمانية تحوي 20 طريقة صوفية، وأكثر من 300 تكيِّة.
أغلب شيوخ الطرق الصوُّفية كانوا طوع إرادة الحكام؛ لذا شجِّع السلاطين العثمانيون التصوُّف بين الأتراك، خاصةً العسكر، لتجييشهم والاستفادة منهم في حمايتهم وتعزيز سلطتهم، لذلك حظيت الطرق الصوفية بدعمٍ رسميٍ وعنايةٍ بالأربطةِ والتِّكايا والزوايا بمنشآتهم ومرافقهم. وعلى الرغم من أن الصوفية شكل ديني نشأ بعيدًا عن الممارسة السياسية، واقتصر تركيزها على أسس المفاهيم الاجتماعية وطُرق العيش التقليدية، إلا أنها كانت غارقة في مستنقع الخرافات والأباطيل، وبعيدة عن الأسس والقواعد الفقهية؛ ومع ذلك نجح العثمانيون في التقارب معها تسييسًا وطمعًا في دعمها على المستوى الشعبي.
على رغم سُنيِّة العثمانيين – قبلهم سلاجقة الأناضول -، إلا أن بيئة آسيا الصغرى عامةً؛ كانت حاضنة لعددٍ كبير من الأفكار الفلسفيِّة، بنظرياتها الوافدة من مختلف الثقافات. وفي مقدمتها الحالة الكهنوتية التي أضفتها هذه الثقافات على الإسلام التركي، إذ لم يستطع الأتراك أن ينعتقوا منها، لذلك يقول الإنجليزي برنارد لويس Bernard Lewis (توفي: 1439هـ/2018م) عن الطرق الصوفية لدى الأتراك:
“أضافت هذه الطرق الكثير مما كان ينقص الإسلام السلفي، وملأوا الفراغ الذي تركته السلفية بين الرجل وخالقه. وقام المرشدون الدراوشة بمهمة رجال الدين والمرشدين الروحانيين، وفتحت اجتماعاتهم المجال للمؤاخاة.. في سبيل البحث عن الله، وفي بعض المناسبات، الكفاح لأجل الحاجات الإنسانية. كانت عقيدتهم حية، صوفية، نابعة من الحدس الطبيعي؛ وعبادتهم ملؤها العاطفة والوجدان، تستخدم فيها الموسيقى والرقص، وذلك مساعدة للمؤمن في الاتصال مع الله”.
وبحسب مفهوم لويس فإن الإسلام الصحيح الذي ينبذ الخرافة والكهنوتية، يُعدُّ ناقصاً من وجهة نظره، وبالتالي فإن الدراويش غطوا هذا النقص الكهنوتي الذي يرى أن أهميته تكمن في تغذية الجانب الروحي، ووجد حَمَلَةُ هذه الأفكار الدخيلة مدخلاً لهم لِبَثِّ فلسفاتهم ونبوءاتهم المرتبطة بجوانب عدِّة على رأسها الجانب السياسي الخادم والخاضع للسلطة، بحجة أنهم وسطاء بين الخالق وخلقه. كل ذلك كان يتم تحت مظلة الدولة العثمانية السُّنيِّة ومباركتها، وإن كان لويس قد عمد إلى تفسيره وفق مفهومه ورؤيته الغربية، إلا أنه كان واقعًا حقيقيًا لو قورن بالمصادر التاريخية التي وصفت هذا الجانب من الحياة الفكرية لدى الدولة العثمانية ومجتمعها التركي.

"الدروشة" العثمانية اعتقدت أنها جاءت بمكملات الجانب الروحي في الإسلام

1) إحسان أوغلي، ومجموعة مؤلفين، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي (إسطنبول: إرسيكا،.1999) 

2) برنارد لويس، إستنبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان، ط 2 (الرياض: الدار السعودية للنشر،1982)

3) خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002)

4) دونالد كوترات، الدولة العثمانية 1700 – 1922 ، ترجمة: أيمن الأرمنازي (الرياض: مكتبة العبيكان، 2004)

5) عبدالفتاح أبو علية، الدولة العثمانية والوطن العربي الكبير (الرياض: دار المريخ، 2008)

6) محمد حرب، السلطان عبدالحميد الثاني (دمشق: دار القلم، 1990 م).

7) محمد كوبريلي، قيام الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد (القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967).

8) محمد نصر مهنِّا، الإسلام في آسيا منذ الغزو المغولي (المكتب الجامعي الحديث، 1990 م).