بهدف إضفاء طابع شرعي على سلوك إنساني شاذ:

حوَّل الفرس حقدهم على العرب إلى عقيدة سلوكية واعتقاد ديني

لم يكتف الفرس بتفريغ استعلائهم العرقي ضد العرب في مسارح الحروب ومعاقل الكراهية، وإنما قرروا تسطير هذه الأحقاد في أمهات المؤلفات وأصول المخطوطات، ومن ثم تحويل الحقد إلى عقيدة سلوكية واعتقاد ديني عملوا على تأصيله وتقعيده-فيما بعد- ببعض النصوص الدينية بهدف إضفاء الطابع الشرعي على سلوك إنساني شاذ حاول الدين تقويمه وقاوم العرب نشوزه.

في هذا السياق، اجتهد الفرس في تأليف مجموعة من الإنتاجات التي تحيل على عقيدة استعلائية ونمط عنصري شاذ، وهو ما صعَّب من إمكانية إنجاح محاولة التقارب بين الطرفين، خاصة بعد أن اعتبر بعض الفرس بأن العداء للعرب واجب ديني وانضباط عقدي.

وبما أنه يصعب رصد جميع الكتابات التي تناولت العرب بالتنقيص والتقليل، فإننا سنحيل على أحد أهم المراجع التي يحيل عليها الفرس والتي رُفِعَت إلى مرتبة أعظم أدب فارسي في جميع العصور. والإحالة هنا على كتاب “ملحمة الشاهنامه” الذي أهداه أبو القاسم الفردوسي للسلطان محمود الغزنوي، وهو عبارة عن جمع لملاحم الفرس منذ القدم إلى سقوط الدولة الساسانية.

وإذا كان الباحثون قد شككوا في بعض روايات الفردوسي، خاصة تلك المرتبطة بالتاريخ القديم للفرس، فإن ما يهمنا في هذه المقالة هو رصد تلك النزعة العرقية والاستعلائية للفرس والتي تَبْقَى الخيطَ الناظمَ في جميع الأبيات التي نظمها الشاعر في هذه “الملحمة” (حوالي 60 ألف بيت).

ومنذ التاريخ الفارسي القديم هنالك حالة استعلاء وحقد على العرب، منها ما سبقت الإشارة إليه من عقيدة الحقد التي تَشَبَّع بها سابور الثاني (ذو الأكتاف) تجاه العرب حتى أنه “لما أتى عليه ثلاثون سنة من ملكه وعمره تشمر للركض إلى بلاد العرب… وأمر بوضع السيف في رقاب العرب فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا. ثم قال: من وجدتموه منهم فاقطعوا يديه وانزعوا كتفيه. ففعلوا ذلك فلقبته العرب من أجل ذلك ذا الأكتاف”.

ويبدو أن هذه العقيدة الاستعلائية كانت ضابط تعامل الفرس مع العرب لقرون من الزمان، خاصة مع إشراقة شمس الإسلام وبزوغ رسالة خير الأنام، حيث قابلها الفرس بالرفض والامتناع ليس رفضًا لمضمونها وإنما لطبيعة “العرق” الحامل لرسالة الإسلام. وهنا رأى الفرس في قبول الإيمان والتسليم به اعترافًا بمكانة العرب باعتبارهم الحاضنين الشرعيين “للدين الجديد” وتشريفًا لهم من طرف المولى عز وجل، الذي يعلم أين يضع رسالته وأمانته.

في هذا السياق، تعكس رسالة القائد العسكري والمنجم رستم بن هرمزد إلى سعد بن أبي وقاص تلك الحالة النفسية والعقيدة الاستعلائية للفرس تجاه العرب. حيث جاء في متن الرسالة ما نصه “من رستم بن هرمزد إلى سعد بن أبي وقاص…أعلمني بما أنت عليه من دينك…وأخبرني من سلطانك وبمن اعتضادك واعتصامك. فقد جئت في عساكر حفاة عراة بلا ثقل ولا رحل ولا فيل ولا تخت. ثم بلغ بكم الأمر من شربكم ألبان الإبل وأكلكم أضباب القيعان إلى تمني أسِرَّة الملوك العجم أرباب التخوت والتيجان”.

من خلال هذه الرسالة نستشف الصورة التي رسمها الفرس عن العرب، بالرغم من أن رستم كان قد تنبأ بصعود نجم العرب وأفول نجم الفرس. ورغم ذلك نجده يضيف في الرسالة نفسها قائلاً: “…فأقبل إلى خدمة الملك حتى ترى من إذا تبسم وهب أثمان جميع رؤوس العرب، ولا ينقص ذلك كنزه شيئًا. وهو الذي على بابه من السباع الضواري المعلمة والجوارح اثنا عشر ألفًا بأطواق الذهب وأقراه، وتزيد نفقاتهم لسنتهم الواحدة على جميع حاصل بلاد العرب”.

صاحب ملحمة الشاهنامة أبو القاسم الفردوسي لم ينله من الفرس إلا النكران والجحود.

لم يكن نصيب الفردوسي من هذه الملحمة إلا الجحود ونكران المجهود من الفرس، فما كان منه إلا أن نعى الجهد وبكى على ما مضى من العمر وقال والحزن يعتصر قلبه والدموع تغالب جفنيه: “وها أنا، بعد خمس وستين سنة أنفقتها من عمري، قاعدًا حزينًا لا أرى سوى “أحسنت” من أبناء الزمان نصيبا، ربقوا على الحقيقة أعناق البدر العتيقة. فعيل صبري وضاق صدري. وكم تعبت وتحملت وكم غصص تجرعت حتى تسنى لي نظم هذا الكتاب في مدة ثلاثين سنة آخرها سنة أربع وثمانين وثلاثمائة”.

كان هذا نصيب من نفخ في تيجان ملوك الفرس واستطال في سرد أساطير العز والملك، فكيف يكون مصير من أراد استبدال عزة العرب وفصاحة اللسان بنظام عرقي استعلائي إرهابي يرى في أذرعه -من بني جلدتنا- أدوات مجردة وملقطًا لخدمة أجندات حكماء فارس قبل أن يُرمى بهم إلى مزابل التاريخ وهو يرددون “يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانًا خليلاً”.

إن حقن كتب التراث بهذه المخلفات العرقية العنصرية يساهم في تكريس عقيدة الحقد والكراهية لدى الفرس تجاه العرب. وإذا كان تروتسكي قد دفع بأن “الحقد هو أسهل معاول الصراع الطبقي”، فإن الفرس جعلوا من الحقد من أخطر أسلحة الصراع العرقي والعقدي على السواء.

  1. أبو القاسم الفردوسي، “ملحة الشاهنامة”، ترجمة: الفتح بن علي البنداري (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة، 1932م).
  2. محمد السلمي، الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث (الرياض: المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2018).
  3. رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).
  4. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).
  5. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).