ثورة مذخور الكعبي (1946)

إحدى أكثر رِدَّات الفعل الأحوازية التي كبَّدت الفرس خسائر فادحة

 فَهْم واستيعاب المادة التاريخية يشكلان اللبنات الأولى لبناء وعي عربي جماعي قادر على بلورة إستراتيجية ذكية، تمكِّن من تحقيق حلم عرب الأحواز في الانعتاق من نير الاستعمار الفارسي، أيضًا إعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة لما فيه مصلحة الخليج العربي والعالم أجمع.

أسلوب الابتزاز عن طريق فزاعة إيران لم يَعُد يخدم لا الغرب ولا الشرق، فهذا النظام أصبح يشكِّل حالة سياسية شاذة، داخليًّا وخارجيًّا، ومن ثم توجَّب التدخل لوضع حد لخطر إيران كمهدِّد للأمن والسلم الدوليين (المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة).

استوعب عرب الأحواز الطبيعة الاستعلائية للفرس، ورفضوا خضوعهم لسياسة الأمر الواقع، وأعلنوا الانتفاضة تلو الأخرى، وذلك بالرغم من أن هذه الانتفاضات أو حالات العصيان حافظت على طابع ردة الفعل وليس الفعل.

في هذا السياق انتفض الشيخ مذخور الكعبي سنة (1946)، وجاءت ثورته كسابقاتها، كردة فعل عكسية على “المجازر التي ارتُكِبت بحق حزب السعادة، الذي تعدَّته إلى جميع العرب”، واستطاعت هذه الانتفاضة، التي اتخذت من سواحل شط العرب مقر قبيلة الشيخ مذخور منطلقًا لها، أن تُلحِق بالحاميات الفارسية هزائم مهمة، بل واستطاعت استرجاع هذه الحاميات والانتقام للعرب “الذين لَطخت دماؤهم أيدي الشيوعيين”. 

ويمكن أن نستنتج منذ الوهلة الأولى ذلك التقاطع بين ثورة الشيخ مذخور الكعبي و”ثورة الغلمان”، حيث كانت ردة الفعل والانتصار لأحد الرموز العربية والحَمِيَّة العربية هي مقدمات الانتفاضة ضد المحتل الفارسي، وذلك بعيدًا عن تبلور وعي ثوري جماعي وفق الأرضية والمرجعيات التي أطَّرْنا لها في مقالات سابقة، ورغم إحكام العقل والبراغماتية في أي فِعل ثوري ينتهي إلى الانعتاق من الاستعمار الخارجي، إلا أن الطريقة التي تعامَل بها الفرس مع زعيم حزب السعادة الحاج حداد ومَن معه، واجتهاد الفرس في التمثيل بجثث أعضاء الحزب وإحراق بعضهم وجَزِّ رؤوس العرب خلقَ حالة من الاحتقان وردة الفعل الإنسانية انضاف إليها رفض الاحتلال والسياسة العرقية الفارسية لتخلق حالة من الرفض العنيف قادها الشيخ مذحور الكعبي.

ورغم أن الانتفاضة خلقت حالة من الارتباك في صفوف المحتل الفارسي فإن هذا الأخير، كما كان الحال دائمًا، عاد ليرص صفوفه ويوجه “جيشًا قويًّا معزَّزًا بالأسلحة الحديثة والمدرعات، والاستعانة بالسلاح الجوي، حيث تم قصف الشيخ مذخور وأفراد قبيلته، وأدَّى ذلك إلى فرار الشيخ مذخور من المنطقة إلى العراق”.

إن أسلوب المقاومة السلبية (رِدَّات الفعل) لا يمكن أن يخلق تغييرًا جذريًّا في بيئة تعيش على وقع الصراع، وبين طرفين لا يمتلكان نفس الأدوات والوسائل، وبالتالي فإن الكفة تميل دائمًا لفائدة المحتل الفارسي الذي ردَّ على انتفاضة الشيخ مذخور بالعديد من المجازر الغرض منها اغتيال روح المبادرة وثني عرب الأحواز عن مجرد التفكير في الثورة على الاحتلال الفارسي.

ولعل حالة الإثخان والمجازر التي ارتكبها ويرتكبها الفرس في حق العرب تمتح من قواميس نيقولا ماكيافيلي، الذي يؤكد على فكرة مفادها “عندما يتعلَّق الأمر بالهجوم على أحدهم يجب أن يتم هذا الهجوم بطريقة تجعل الخصم يتورَّع حتى عن التفكير في الانتقام”. ولهذا فإن السبب الجوهري في فشل انتفاضة الشيخ مذخور الكعبي، وسابقاتها، يكمن في غياب التنسيق مع قوى المعرضة الأخرى، “على الرغم من أن تلك القوى كانت تستند في تحركها على قاعدة تضم ثقلًا عربيًّا ملموسًا، وكان لها الدور الفاعل في النضال ضد السلطات الحكومية وشركات النفط الأنكلو-إيرانية، لذلك كان يسهل على السلطات المسؤولة التدخل بقوة لوأد تلك الحركات، خصوصًا وأنها (السلطات) كانت مطلَقة اليد في التصرف في الأحواز، ومدعومة في كثير من الأحيان من جانب البريطانيين”. 

دائمًا ما كانت الآلة العسكرية المتطورة والثقيلة هي التي تنقذ المحتل الفارسي على أرض الأحواز.

إن ما زاد من محنة العرب الأحواز هي حالة التحالف بين إيران وبريطانيا، التي ساهمت بدورها، في تضييق الخناق على العرب، وبالتالي وضعهم بين “فكَّيِ الكماشة”، وتسهيل عملية قمع جميع الانتفاضات التي كانت تتوق للانعتاق عن الاستعمار الفارسي.

ولعل تغيُّر الوقائع على الميدان، ووجود عُمق عربي قوي، ومراكمة الزخم السياسي والإعلامي حول القضية الأحوازية، قد يغيِّر من المعطيات على الأرض، خاصة وأن هذه القضية أخذت أبعادًا جيوستراتيجية، حيث اجتمعت عدالة القضية بإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، إلى درجة يمكن القول معها بأن نهاية الاستعمار الفارسي على إقليم الأحواز يعني نهاية حالة وضع اليد الإيرانية على مناطق من الخليج العربي، وبالتالي القضاء على أحد أخطر مهدِّدات الأمن القومي الخليجي. 

  1. عامر الدليمي، الاحتلال الإيراني لإقليم الأحواز العربي (عمَّان: دار الأكاديميون للنشر، 2020).

 

  1. علي الحلو، الأحواز.. ثوراتها وتنظيماتها 1914-1966م (النجف: مطبعة الغري الحديثة، 1970).

 

  1. علي الصرخي، تاريخ الحركة الوطنية في الأحواز، رسالة ماجستير، جامعة بغداد (2002).

 

  1. وزارة الإعلام العراقية، تاريخ عربستان والوضع الراهن في إيران (بغداد، مطابع وزارة الإعلام، 1971).